وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال: (ما ظهر) الطواف عرياناً، والبواطن الزنى، وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال.
و (ما) بدل من الفواحش وهو بدل بعض من كل، ومجموع القسمين يأتي بدل الشيء من الشيء وهو هو.
(والإثم) أيضاً: لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم، هذا قول الجمهور.
وقال بعض الناس: هي الخمر واحتج على ذلك بقوله الشاعر: [الوافر]
شربت الإثم حتى طار عقلي .........................
قال القاضي وأبو محمد: وهذا قول مردود؛ لأن هذه السورة مكية؛ ولم تعن الشريعة بتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد (أُحُدٍ) لأن جماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء، وهي في أجوافهم، وأيضاً فبيت الشعر يقال إنه مصنوع مختلق، وإن صح فهو على حذف مضاف، وكأن ظاهر القرآن على هذا القول أن تحريم الخمر من قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير} [البقرة: 219] وهو في هذه الآية قد حرم، فيأتي من هذا الخمر والإثم محرم فالخمر محرمة.
قال القاضي أبو محمد: ولكن لا يصح هذا لأن قوله {فيهما إثم} لفظ محتمل أن يراد به أنه يلحق الخمر من فساد العقل والافتراء وقتل النفس وغير ذلك آثام فكأنه قال في الخمر هذه الآثام أي هي بسببها ومعها وهذه الأشياء محرمة لا محالة، وخرجت الخمر من التحريم على هذا ولم يترتب القياس الذي ذهب إليه قائل ما ذكرناه، ويعضد هذا أنّا وجدنا الصحابة يشربون الخمر بعد نزول قوله {قل فيهما إثم} وفي بعض الأحاديث فتركها قوم للإثم الذي فيها وشربها قوم للمنافع، وإنما حرمت الخمر بظواهر القرآن ونصوص الأحاديث وإجماع الأمة)).
أقول: في هذا النص وقفات:
أولها: إن جملة آية الأعراف هذه قد مضى شبيهها في سورة الأنعام في قوله تعالى ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الأنعام:151)، والقول فيهما واحدٌ؛ لأن السورتين مكيتان، لكن الفرق بينهما أن آية الأنعام فيها النهي نهي عن قربان الفواحش.
ومن ثمَّ، فإن كلام مفسري السلف عن الآيتين واحدٌ، لذا يحسن أن نربط بينهما في قول ابن عطية، ثم نخلص بنتيجة لذلك.
أما في سورة الأنعام، فإن ابن عطية ـ رحمه الله ـ قد أغرب في حمل أقوال مفسري السلف على التخصيص، قال: ((وقوله تعالى: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي، و «ظهر وبطن» حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء، وذهب بعض المفسرين إلى أن القصد بهذه الآية أشياء مخصصات، فقال السدي وابن عباس: {ما ظهر} هو زنا الحوانيت الشهير، و {ما بطن} هو متخذات الأخدان، وكانوا يستقبحون الشهير وحده فحرم الله الجميع.
وقال مجاهد {ما ظهر} هو نكاح حلائل الآباء ونحو ذلك، و {ما بطن} هو الزنا إلى غير هذا من تخصيص لا تقوم عليه حجة، بل هو دعوى مجردة)).
وقال في تفسير آية سورة الأعراف: ((وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال: (ما ظهر) الطواف عرياناً، والبواطن الزنى.
وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال)).
وفي هذين الموضعين أمران:
الأول: أنه حَكَمَ في سورة الأنعام على تفسيرات السلف لما ظهر وبطن بأنها على سبيل التخصيص، ثم تراه في سورة الأعراف بعدها يشير إلى أنها بالتمثيل، مع حكمه على تفسير مجاهد بالتخصيص، فهل هذا يُعدُّ استدراكًا منه على نفسه؟
¥