ينقل صاحب (الكشكول) عن الأصمعي أنه " قال: كنت أقرأ (والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديَهما جزاءً بما كسبا، نَكالاً من الِله، واللهُ غفورٌ رحيمٌ)، وبجنبي أعرابي، فقال: كلامُ منْ هذا؟ فقلتُ: كلامُ الله. قال: أعِدْ، فأعدتُ. فقال: ليس هذا كلامَ الله , فانتبهتُ، فقرأتُ: (واللهُ عزيزٌ حكيمٌ) (سورة المائدة:41) فقال: أصبتَ هذا كلامُ الله، فقلتُ: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. فقلتُ: من أين علمتَ؟ فقال: يا هذا، عزَّ فحكمَ فَقَطَعَ، ولو غفرَ فرَحِمَ لَمَا قَطَع ". فالأعرابي بسليقته الفصيحة وحسه البياني السليم اهتدى إلى إحكام النظم في أسلوب القرآن، ولا سيما علاقة (الفاصلة) (حكيم) بآيتها تلك العلاقة التي تميز كلام ربّ العالمين من كلام سواه.
وينسب السيوطي إلى الجاحظ قوله: (سمّى الله تعالى كتابه اسماً مخالفاً لما سمّى العرب كلامهم على الجملة والتفصيل: سمّى جملته قرآناً كما سمَّوا ديواناً، وبعضه سورة كقصيدة، وبعضه آية كالبيت، وآخرها فاصلة كقافية) (1)
كلام الجاحظ هذا يحمل عدداً من الدلالات، أولها: استقرار الدلالة على تسمية أواخر الآيات بالفاصلة في طبقة الجاحظ، على حين كانت عبارة (مقاطع القرآن) هي المعروفة في طبقة الخليل ابن أحمد الفراهيدي، ثم أصبحت خاصة أي (الفاصلة) بأواخر الآيات في طبقة أبي حسن الأشعري، وإلى يومنا هذا، كما اختصت (القافية) بالشعر، والسجعة بالنثر.
الدلالة الثانية: الاستعانة بمنهج المقارنة بين أسلوب القرآن الكريم وأسلوب الشعر في إظهار جماليات الأسلوب القرآني وإعجازه، كما فعل الإمام الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن) والجرجاني في كتابيه (أسرار البلاغة) و (دلائل الإعجاز) ومن جاء بعدهما.
الدلالة الثالثة: التفطُّن إلى تسلسل وحدات القرآن وتماسكها: (فاصلة – آية – سورة – قرآن)، ثم الالتفات إلى التماسك (أو ما يسمى حديثاً الوحدة الفنية) أو ما سماه البقاعي التناسب (في الآيات والسور) و ما سماه سيد قطب وعبد الحميد الفراهي وعبد الله دراز بـ (نظام القرآن).
كان على رأس المهتمين ببحوث الفاصلة بحسب التسلسل الزماني:
1 – علماء الكلام، بما فيهم المعتزلة والأشاعرة.
2 – اللغويون: من رجال النحو على وجه الخصوص.
3 – المفسرون وجماعة علوم القرآن.
4 – البلاغيون (2)
وفي حدود ما وصلنا من الدراسات القديمة حول (الفاصلة) ننوه بنوّعين:
1 – النوع الأول: وهو الكتب التي أُفردت للفاصلة، مثل: كتاب (بغية الواصل لمعرفة الفواصل) (كتاب مفقود) لنجم الدين الطوفي الصرصري (670 - 710هـ)، و (إحكام الراي في أحكام الآي) لشمس الدين ابن الصائغ (710 – 776هـ) (مفقود لكن نقل منه السيوطي وغيره نقولاً)، و (منظومة في فواصل ميم الجمع) (مخطوطة) لمحمد الخروبي (نظمها 1026هـ)، و (القول الوجيز في فواصل الكتاب العزيز) (مخطوط) لرضوان المخللاتي، و (نفائس البيان: شرح الفرائد الحسان، في عدّ آي القرآن) (مطبوع) لعبد الفتاح القاضي، (وهو شرح وجيز لمنظومة في علم الفواصل).
2 – النوع الثاني: وهو الفقرات التي عُقدت للفاصلة في أثناء دراسات أعمّ:
أ – فمن مؤلفات علماء الكلام: لدينا رسالة (النُّكَت في إعجاز القرآن) للرمّاني المعتزلي , و (إعجاز القرآن) للباقلاني الأشعري.
ب – ومن مؤلفات النحويين: لدينا (معاني القرآن) للفرَاء، و (مجاز القرآن) لأبي عبيدة.
ج – ومن أسفار المفسرين وعلماء القرآن: لدينا (البرهان في علوم القرآن) للزركشي، و (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي.
د – ومن تصانيف البلاغيين: لدينا (سرّ الفصاحة) لابن سنان الخفاجي، وكتاب (الفوائد- المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان) لابن قيم الجوزية.
تناولت جهود القدماء الفاصلة في أبعادها المختلفة، ولكن الجهد الأكبر قد انصبّ على بُعد الفاصلة العلمي، لا سيما جهود المتأخرين منهم.
أما في الزمن الحديث، فلا تكاد تجد باحثاً في أسلوب القرآن الكريم إلا تناول (الفاصلة) في معرض حديثه، ويمكن أن نرى في المحدثين ثلاث فئات، نجملها فيما يلي:
¥