تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن بروز تيار أدبي انهمك بالاعتناء بالسجع وتنسيق توافق الكلمات من حيث اللفظ دون المعنى، أدى في القرن الخامس للهجرة إلى ردة فعل تجلت في الدعوة إلى إهمال الشعر والانصراف عن النحو. وقد تصدى الإمام عبد القاهر الجرجاني للتيار الذي اهتم باللفظ دون المعنى. وهاجم الدعوة إلى اهمال الشعر والانصراف عن علم النحو. وأكد أن البلاغة ليست أمراً مستقلاً عن اللغة، وبيّن أن البلاغة تساعد اللغة على أداء وظيفتها المتمثلة في الاتصال. فكان كتابه "دلائل الإعجاز في علم المعاني" بداية مرحلة جديدة في تاريخ علم اللغة العربية هي مرحلة الدراسة الوظيفية للغة العربية واشتمل كتاب "دلائل الإعجاز" على نظرية متكاملة في اللغة ووظائفها. وقد قمت ببلورة نظرية الإمام الجرجاني اللغوية وحددت موقعها في علم اللغة العام الحديث في كتابي "الموجز في شرح (دلائل الإعجاز في علم المعاني) (9).

وقبل أن أعرض رأي الإمام الجرجاني في إعجاز القرآن، سأقدم بعض التوضيحات للمفاهيم والمصطلحات التي يستخدمها الجرجاني.

1 - إن الجرجاني حين يؤكد أن (الألفاظ أوعية للمعاني وخادمة لها) ينطلق في ذلك من الوحدة التي لا تنقصم بين الشكل (اللفظ) والمضمون (المعنى).

"وليت شعري، هل كانت الألفاظ إلا من أجل المعاني؟ وهل هي إلا خدم لها ومصرفة على حكمها .. " (10).

"إن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني، فإنها لا محاولة تتبع المعاني في مواقعها، فإذا وجب لمعنى أن يكون أولاً في النفس وجب اللفظ الدال عليه أن يكون مثله أولاً في النطق" (11).

2 - يفيد تعبير (نظم الكم) عند الجرجاني (ترتيب الكلمات وتأليف الكلام) ويمكن تلخيص علاقة الكلمة المفردة بالنظم بما يلي:

آ-لا ترتبط البلاغة بالكلمة المفردة دون اعتبار موقعها في النظم.

"إنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موقع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر" (12).

"فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ، وإذا استحقت المزية والشرف استحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها، دون أن يكون السبب في ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم، لما اختلفت بها الحال ولكانت أما أن تحسن أبدا أو لا تحسن أبداً" (13).

ب-لا بد في النظم من أن تتلاقى معاني الكلمات على الوجه الذي يقتضيه العقل.

"ليس الغرض بنظم الكم أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل" (14).

ج-يتم نظم الكلم وفق قوانين النحو. ومعاني النحو هي المعاني ذات الدلالات العقلية والمهم معرفة مدلولات النحو لا العبارات النحوية نفسها.

د-لا ينكر تعلق الفكر بمعاني الكلم المفردة أصلاً، ولكن الفكر لا يتعلق بمعاني الكلم مجردة عن معاني النحو.

ولا بد هنا من مناقشة رأي تبناه د. سلطاني حول "تأثر الجرجاني بتفضيل الجاحظ للفظ مما أوصله إلى موقف مناقض للمعروف عنه" (15).

إننا نرى أن القول (بوجود تناقض في موقف الإمام الجرجاني) ينبع من الفصل بين الشكل والمعنى. وقد أشار الجرجاني إلى تلازم الشكل والمعنى بقوله: "واعلم أنهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدباً وحكمة وكان غريباً نادراً، فهو أشرف مما ليس كذلك. بل غابوه من حيث كان من حكم من قضى في جنس من الأجناس بفضل أو نقص أن لا يعتبر في قضيته تلك إلا الأوصاف التي تخص ذلك الجنس وترجع إلى حقيقته، وألا ينظر فيها إلى جنس آخر، وإن كان من الأول بسبيل أو متصلاً به اتصال ما لا ينفك منه" (16).

وكنت قد أشرت في"الموجز في شرح دلائل الإعجاز" إلى أن مهاجمة الجرجاني من يقدم الشعر بمعناه فقط دون الاهتمام بنظم ألفاظه يجب أن نفهمها في ضوء شرحه للعلاقة بين المضمون (الذي هو المعنى) والشكل (الذي هو اللفظ) وأنه لا يجوز فصل أحدهما عن الآخر (17). كما أشرت إلى أن العلاقة بين الشكل والمعنى علاقة جدلية لا انفصام فيها. لذا لا يجوز أن نأخذ بعين الاعتبار جانباً واحداً منهما فقط ونهمل الجانب الآخر. وهذا هو السبب في الانتقاد الشديد الذي وجهه القدماء ممن صنف في البلاغة كالجاحظ لمن أهملوا الشكل ولم يوجبوا الفضل والمزية في الشعر إلا من جانب المعنى وحتى يكون قد قال حكمة أو أدباً واستخرج معنى غريباً أو شبيهاً نادراً (18).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير