3 - إن مصطلح (المعنى) الذي يستخدمه الجرجاني – حين لا يقصد به معاني الكلم المفردة بل معاني الكلم المرتبطة بالنظم – يفيد (معنى الكلام). وسنلخص بإيجاز رأي الجرجاني في معاني الكلام.
أ-الكلام خبر وأمر ونهي واستفهام وتعجب.
ب-الخبر وجميع الكلام معان توصف بأنها مقاصد وأغراض وأعظمها شأناً الخبر وترتبط جميعها بوظيفة اللغة الأساسية وسيلة للاتصال بين الناس تتجلى في نقل ما يقصده المتكلم إلى السامع.
ج-لا يقصد المتكلم أن يعلم السامع معاني الكلم المفردة التي يكلمه بها، بل يقصد أن يعلم السامع بها شيئاً جديداً لا يعلمه. وينقسم معنى الخبر، تبعاً لحاجة السامع المحددة بالموقف أو الحال الذي يقال فيه الكلام إلى خبر ابتدائي وخبر غير ابتدائي.
د-ليس الخبر صفة للفظ، ولكن حقيقة الخبر هي الحكم بوجود المعنى أو عدمه. ويسمى وجود المعنى من الشيء أو فيه اثباتاً، ويسمى عدم المعنى وانتفاؤه عن الشيء نفياً. والاثبات أو النفي بحد ذاتهما معنى، لذا فإن معنى الخبر هو معنى منفصل عن معنى المخبر به والمخبر عنه.
وهكذا نرى أن مصطلح (المعنى) عند الجرجاني يفيد (معنى الخبر وجميع الكلام). ويرتبط هذا المعنى بالموقف أو الحال الذي يقال فيه وبالسياق الكلامي الفعلي الذي يدخل فيه. وفي ضوء ذلك أرى أن عنوان كتاب الإمام الجرجاني "دلائل الإعجاز في علم المعاني" يفيد أن (دلائل الإعجاز تكون في معرفة ارتباط معنى الكلام بالموقف أو الحال الذي يقال فيه وبالسياق الكلامي الفعلي الذي يدخل فيه).
وسأعرض الآن بإيجاز رأي الإمام الجرجاني في إعجاز القرآن.
1 - يناقش الجرجاني الرأي الذي يميز في البلاغة بين العرب وغير العرب، لأن اللغة للعرب بالطبع ولغيرهم بالتكليف، فيقول: "فمن ذلك أن تجد كثيراً ممن يتكلم في شأن البلاغة إذا ذكر أن للعرب الفضل والمزية في حسن النظم والتأليف، وأن لها في ذلك شأواً لا يبلغه الدخلاء في كلامهم والمولدون، جعل يعلل ذلك بأن يقول: لا غرو فإن اللغة لها بالطبع ولنا بالتكليف، ولن يبلغ الدخيل في اللغات والألسنة مبلغ من نشأ عليها، لها بالطبع ولنا بالتكليف، ولن يبلغ الدخيل في اللغات والألسنة مبلغ من نشأ عليها وبدئ من أول خلقه بها وأشباه هذا مما يوهم أن المزية أتتها من جانب العلم باللغة وهو خطأ عظيم وغلط منكر يفضي بقائله إلى رفع الإعجاز من حيث لا يعلم.
وذلك أنه لا يثبت إعجاز حتى تثبت مزايا تفوق علوم البشر، وتقصر قوى نظرهم عنها ومعلومات ليس في من أفكارهم وخواطرهم أن تفضي بهم إليها وأن تطلعهم عليها وذلك محال فيما كان علماً باللغة لأنه يؤدي إلى أن يحدث في دلائل اللغة ما لم يتواضع عليه أهل اللغة. وذلك ما لا يخفى امتناعه على عاقل" (19).
2 - يناقش الجرجاني رأي من يثبت إعجاز القرآن بدليل عجز العرب عن أن يأتوا بمثله، فيقول: "فإن قال منهم قائل: إنك قد أغفلت فيما رتبت، فإن لنا طريقاً إلى إعجاز القرآن غير ما قلت، وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله. وتركهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليم وطول التقريع لهم بالعجز عنه، ولأن الأمر كذلك (ما قامت) 2 به الحجة على العجم قيامها على العرب واستوى الناس قاطبة، فلم يخرج الجاهل بلسان العرب من أن يكون محجوجاً بالقرآن.
قيل له: خيرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا عليه السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر. أتعرف له معنى: غير أن لا يزال البرهان منه لائحا معرضاً لكل من أراد العلم به، وطلب الوصول إليه، والحجة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها. والعلم بها ممكناً لمن التمسه؟ فإن كنت لا تشك في أن لا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلا أن الوصف الذي له كان معجزاً قائم فيه أبداً، وأن الطريق إلى العلم به موجود، والوصول إليه ممكن فانظر أي رجل تكون إذا أنت زهدت في أن تعرف حجة الله تعالى وآثرت فيه الجهل على العلم، وعدم الاستبانة على وجودها. وكان التقليد فيها أحب إليك، والتعويل على علم غيرك آثر لديك، ونح الهوى عنك، وراجع عقلك، وأصدق نفسك، يبين لك فحش الغلط فيما رأيت، وقبح الخطأ في الذي توهمت، وهل رأيت رأياً أعجز واختياراً أقبح: ممن كره أن تعرف حجة الله تعالى من الجهة التي إذا عرفت منها كانت أنور وأبهر وأقوى وأقهر .. ؟ (20).
¥