تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكما استخدم التصوير في المعاني المجردة كالكفر والإيمان والتوحيد والشرك فإنه استخدمها للتعبير عن حالات نفسية ومعنوية: فحينما يكون المعنى هو حيرة غير المؤمنين تأتي الآية " قل: أنرد على أعقابنا كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران، له أصحاب يدعونه إلى الهدى: ائتنا " فليته كان صاحب قصد موحد ولو في طريق الضلال ولكن هناك على الجانب الآخر من يدعوه إلى الهدي، وهو بين الغواية والدعاء حيران متلفت .. وحينما يعبر عن حالة نفسية مثل تزعزع العقيدة قال " ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير أطمأن به وإن أصابته فتنة أنقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة " وهي صورة ترسم حالة التزعزع بأوضح مما يؤديه لفظ التزعزع لأنها تنطبع في الحس في صورة محسوسة.

أما مشاهد القيامة، وصور العذاب والنعيم فقد كان لها من التصوير الفني أوفى نصيب .. فهذا مشهد من مشاهد الحشر " خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها أربعون ذراعا فاسلكوه " وكذلك: " يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد " مشهد حافل يموج بالهول لا يقاس بالحجم والضخامة فقط وإنما بوقعه في النفوس.

وقليل من صور القرآن هو الذي يعرض صامتا ساكنا أما أغلب الصور ففيها حركة وتخلع على الجماد حياة مثل " والصبح إذا تنفس " .. يتنفس فتتنفس معه الحياة ويدب النشاط في الأحياء .. والأرض والسماء عاقلتان يوجه إليهما الخطاب: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض: ائتيا طوعا أو كرها، قالتا: ائتينا طائعين ". وهذه جهنم النهمة المتغيظة التي لا يفلت منها أحد ولا تشبع بأحد " وإذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا "

وتصور الألفاظ أيضا " بجرسها " فإذا قرأت سورة الناس تجد صوتك يحدث وسوسة كاملة تناسب جو السورة.

وهناك مقابلات دقيقة في الموسيقى تناسب صور النعيم والعذاب: " كلا إذا دكت الأرض دكا دكا، وجاء ربك والملك صفا صفا، وجيء يومئذ بجهنم، يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى " .. في وسط هذا الروع الذي يشبه العرض العسكري توجد موسيقى منتظمة الدقات منبعثة من البناء اللفظي الشديد، وعلى العكس: " يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي "، تأتي الموسيقى رخية متموجة.

وقد تتنوع القافية في السورة الواحدة لتناسب المعنى الذي تريده فمثلا في سورة مريم يكون هكذا: " ذكر رحمة ربك عبده زكريا، إذ نادى ربه نداء خفيا " ... الخ: " واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا لها بشرا سويا " .. الخ وفجأة يتغير النسق تماما: " ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " وكأنه باستخدام النون أو الميم يصدر حكما بعد نهاية قصة ولهجة الحكم تقتضي إيقاعا رصينا بدل إيقاع القصة الرضي المسترسل، وكأنما لهذا السبب كان التغير خصوصا وأنه بمجرد الانتهاء من إصدار الحكم عاد إلى النظام الأول في القافية والفاصلة: " واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا " ... الخ.

نفس الشيء تلاحظه في سورة النبأ بدأت السورة بقافية النون والميم مناسبة جو التقرير: " عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون، كلا سيعلمون، ثم كلا سيعلمون " فإذا انتهى من التقرير وبدأ الجدل تغير النظام هكذا: " ألم نجعل الأرض مهادا؟ والجبال أوتادا؟ " .. الخ.

في سورة " الصف "موسيقى سريعة الحركة قصيرة الموجة شديدة الارتجاف ": يوم ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة، قلوب يومئذ واجفة، أبصارها خاشعة " .. الخ، ثم تتغير الموجة لتصيح بطيئة الحركة متوسطة الطول تناسب الجو القصصي: " هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى، اذهب إلى فرعون إنه طغى " .. الخ ..

وهناك موسيقى الدعاء المتموجة الطويلة الخاشعة: " ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار، ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير