تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد يضع التعبير القرآني إطارا للصورة ثم يطلق من حولها الإيقاع الموسيقى المناسب لهذا الإطار ففي سورة الضحى يكون هناك جو من الحنان اللطيف والرحمة الوديعة من خلال خلال نظم لطيف العبارة رتيب الحركات، فلما أراد إطارا لهذا الحنان اللطيف جعله من الضحى الرائق والليل الساجي، أصفى آنيين من آونة الليل والنهار:

وهناك موسيقى أخرى خشنة عنيفة فيها دمدمة وفرقعة .. تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة والصدور المحصل ما فيها بقوة وجو الجحود وشدة الأثرة: " والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا، فأقرن به نقعا، فوسطن به جمعا، إن الإنسان لربه لكنود، وإنه على ذلك لشهيد، وإنه لحب الخير لشديد، أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، إن ربهم بهم يومئذ لخبير ".

فإذا أراد لهذا إطارا مناسبا أختاره من نفس الجو الصاخب المعفر الذي تثيره الخيل فكان الإطار من الصورة والصورة من الإطار.

وقد تأتي صورتان لكل منهما إطارها المناسب: " والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى، إن سعيكم لشتى، فأما من أعطى وأتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى " .. الخ .. فهنا صورة فيها الأسود والأبيض، من أعطى وأتقى، ومن بخل واستغنى، وفي الإطار كذلك الأسود والأبيض، الليل إذا يغشى هذه المرة (وليس إذا سجى)، والنهار هنا إذا تجلى (المقابل لليل إذا يغشى)، وهنا الذكر والأنثى المتقابلان في النوع والخلقة، فذلك إطار مناسب للصورة .. أما الموسيقى المصاحبة فلا هي أعلى من موسيقى " الضحى والليل إذا سجى " ولكنها ليست عنيفة قاسية كسورة العاديات لأن الجو للسرد والبيان أكثر مما هو للهول والتحذير.

وهناك وحدة الرسم تحتم التناسق بين أجزاء السورة فإذا قرأت سورة الفلق وجدت أن الجو المراد إطلاقه هو جو التعويذة بما فيه من هيمنة وخفاء لذلك ناسبه جو الشر و الليل يتغلغل ظلامه ونفث الساحرات في العقد والحسد الباطني المطمور في ظلام النفس .. فالجو كله ظلام وغموض ناسبه استخدام لفظ الفلق وهو مرحلة تجمع بين النور والظلمة ولها جوها الغامض المسحور.

وقد عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر مرة بأنها هامدة ومرة بأنها خاشعة، وقد يفهم البعض أنه مجرد تنويع في التعبير لكن الحقيقة أن السياق أختلف في المرتين .. ففي السياق الأول جو بعث وأحياء وخلق ناسبه وصف الأرض بأنها هامدة ثم تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج .. : " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة " ... الخ ثم: " وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج " .. أما السياق الثاني فجو عبادة وخشوع ناسبه تصوير الأرض بأنها خاشعة: " ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون، فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون، ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت " .. ثم لا يزيد على الاهتزاز والإرباء الإنبات والإخراج كما زاد هناك لأنه لا محل لهما في جو العبادة والسجود.

ويستخدم القرآن في التصوير اللمسات العريضة: " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟، وإلى السماء كيف رفعت؟، وإلى الجبال كيف نصبت؟، وإلى الأرض كيف سطحت؟ " فهذه ريشة تجمع بين السماء والأرض والجبال والجمال في مشهد واحد مستمد من الطبيعة والحياة، ملحوظ فيه الضخامة والأجزاء الموزعة بين الاتجاه الأفقي في السماء المرفوعة والأرض المبسوطة، والإتجاه الرأسي في الجبال المنصوبة والإبل الصاعدة السنام.

وقد تتسع الرقعة في الزمان والمكان والحاضر والغيب ما بين الساعة البعيدة المدى والغيث البعيد المصدر، وما في الأرحام الخافي عن العيان، والرزق المغيب في المجهول وموضع الموت لكنها تجمع كل أطرافها عند نقطة الغيب المجهول: " إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت "

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير