فبالعرضتين تم قطعه عن أسباب النزول والأسباب التاريخية ليأخذ صفة الإطلاق، وتجاوز أي مرحلة تسبقه ويصبح الكتاب الذي يستوعب العصور كلها، فلا يقال في أي عصر من العصور هذا الخطاب ليس لي .. هو خطاب للبشرية إلى يوم الدين؛ لأن النبي خاتم والكتاب آخر الكتب والدين مكتمل.
* وماذا يعني هذا الاستيعاب للقرآن بالنسبة مثلا للأحكام التشريعية؟
- يعني ببساطة أن القرآن الكريم هو المصدر المنشئ لسائر الأحكام، أي شيء يمكن أن تقول إنه من الدين في أساسياته وأصوله وقواعده وعقيدته وشريعته تجده في القرآن الكريم، ولذلك يقول تبارك وتعالى: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون".
إذن الحاكمية لمن؟ لهذا الكتاب الكريم وكل آية وردت في القرآن الكريم "إن الحكم إلا لله" يعني للقرآن الكريم؛ لأنه هو كلام الله فهو الخط الفاصل وهو الذي خوطبنا به.
رسول الله صلى الله عليه وسلم حدد الله تعالى مهمته بما يلي: "يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم" فيعلم الكتاب ويعلم الحكمة الكامنة فيه.
* لكن أليست الحكمة هنا هي السنة كما نفهم؟
- لا .. هذا تفسير الإمام الشافعي، ولكن الحكمة أيضا مفهوم مثل مفهوم الرفع الذي تحدثنا عنه في قضية عودة عيسى عليه السلام، مفهوم قرآني يحتاج إلى تحرير ولي محاولات في تحريره ..
وقد كتب بعض الناس في هذا كتابات، ولكن تحتاج إلى تحرير باعتباره مفهوما قرآنيا، والسنة لا يقال لها الحكمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى استخدم كلمة السنة كثيرا في القرآن الكريم "سنة الله في الذين خلو من قبل" و"قد خلت من قبلكم سنن"، و"ولن تجد لسنة الله تبديلا" فما المانع أن يقول يعلمهم الكتاب والسنة.
* هل المقصود بها في استعمالاتها السنة الكلامية أم السنة الفعلية؟
- هذا سيساعد على تحرير الأمر كله القرآن الكريم (كتاب وخطاب)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بتعليم الكتاب وتطبيقه، فالتطبيق هو التأويل والحكمة .. لماذا؟
لأن الله سبحانه وتعالى يقول: "يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق" يقصد التأويل المعلق بقضية البعث والآخرة.
هنا ربنا تبارك وتعالى كلف رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلم الناس الكتاب حرفيا وأن يبين لهم حكمته بالتطبيق العملي "كان خلقه القرآن" فسلوكه، عبادته، خلقه، حكمه، قيادته، كل ما يفعله كان قرآنا ..
وكان عليه الصلاة والسلام إذا فعل شيئا عن اجتهاد أو انطلاق من براءة أصلية كما يقال، قد يستدرج القرآن عليه "عفا الله عنك لم أذنت لهم"، "عبس وتولى أن جاءه الأعمى"، "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض".
لذلك فالسنة وحي من الله تعالى، كأنه يقول له: تعلمهم الكتاب وتجعل نفسك نموذجا لهم في تطبيقه، يتأسون بك ويهتدون بفعلك ويقتدون بك؛ لأن البشر بطبيعتهم كما يحتاجون إلى النظرية يحتاجون إلى التطبيق وإلى الأسوة الحسنة.
فليس كافيا أن تعلمهم الكتاب، ولكن طبق أمامهم حتى يرونك تفعل وتقول تتصرف وتمارس، ومن كل ذلك يأخذون حكمة ويستنبطون منهجا لتطبيق القرآن الكريم، من خلال ما تقول وما تفعل وما تقرر وما تتخذ من سياسات وما تفتي وما تعلم .. كل هذا يأخذونه ممن؟
يأخذونه منك ومن عملك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم المسئول عن التأويل، فتصبح هنا السنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيقا قرآنيا، تصبح سنة للنبي صلى الله عليه وسلم قائمة على القرآن.
* "سنة قرآنية" .. يمكن أن نطلق عليها؟
- نعم سنة قرآنية .. وليست قضية مستقلة، ففي إطار السنة القرآنية لن يكون هناك أي إشكال، ولذلك الإمام الشافعي رحمة الله عليه قال في مقدمة رسالته: "فليس تنزل في أحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله سبيل الهدى إليها"، هذا قوله، وحينما جاء إلى البيان وشرح لنا البيان في الرسالة علمنا خمسة أنواع من البيانات، ثلاثة لبيان القرآن بالقرآن؛ القرآن يبين نفسه، وواحدة السنة تبين القرآن .. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين ويطبق بفعله وقوله وتقديره وحكمته وتطبيقه ..
والبيان الخامس الاجتهاد الإنساني في الفهم والتطبيق، وضرب له مثلا بأن تجتهد لمعرفة القبلة وما إلى ذلك ..
¥