تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذا لأنَّهُ إذا لم يَعْرِفِ الجاهليَّةَ والشِّرْكَ، وما دَعَا بهِ القرآنُ وذَمَّهُ، وَقَعَ فيه وأَقَرَّهُ، ودَعَا إليه وصَوَّبَهُ وحَسَّنَهُ، وهو لا يَعْرِفُ أنَّهُ الَّذي كانَ عليهِ الجاهليَّةُ، أو نَظِيرُهُ أو شرٌّ منه أو دونَهُ، فتُنْتَقَضُ بذلك عُرَى الإسلامِ، ويَعُودُ المَعْرُوفُ مُنْكَرًا، والمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، والبِدْعَةُ سُنَّةً، والسُّنَّةُ بدعةً، ويَكْفُرُ الرَّجُلُ بمَحْضِ الإيمانِ وتَجْريدِ التَّوحيدِ، ويُبَدَّعُ بتَجْرِيدِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومُفَارَقَةِ الأَهْواءِ والبِدَعِ. ومَنْ لَهُ بَصِيرةٌ وقَلْبٌ حَيٌّ يَرَى ذلك عِيانًا، فاللهُ المُسْتَعَانُ.

- وَقَالَ اللهُ تَعَالى حَاكِيًا عن أَسْلاَفِ هؤلاء المُشْرِكينَ: {وَالَّذينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزُّمَر:3] فهذه حالُ مَن اتَّخَذَ مِن دونِ اللهِ وليًّا يَزْعُمُ أنَّهُ يُقَرِّبُهُ إلى اللهِ تعالى، وما أَعَزَّ مَن يَخْلُصُ مِن هذا، بلْ ما أَعَزَّ مَن يُعَادِي مَن أَنْكَرَهُ.

والذي في قُلُوبِ هؤلاءِ المُشْرِكينَ وسَلَفِهِم أنَّ آلهتَهُم تَشْفَعُ لَهُم عندَ اللهِ، وهذا عَيْنُ الشِّرْكِ.

وقد أَنْكَرَهُ اللهُ عليهِم في كتابِهِ، وأبطَلَهُ، وأَخْبَرَ أنَّ الشَّفَاعَةَ كلَّها لَهُ، وأنَّهُ لا يَشْفَعُ عندَهُ أَحَدٌ إِلاَّ لمَنْ أَذِنَ اللهُ تعالى أنْ يَشْفَعَ له فيه، ورَضِيَ قولَهُ وعَمَلَهُ. وهم أَهْلُ التَّوحيدِ الَّذينَ لم يتَّخِذُوا مِن دونِ اللهِ شُفَعَاءَ، فإنَّهُ سبحانَهُ وتعالى يَأْذَنُ في الشَّفَاعةِ فيهم لمَنْ يَشَاءُ، حَيْثُ لم يتَّخِذُوهُم شُفَعاءَ مِن دونِهِ، فيكونُ أَسْعدُ النَّاسِ بشَفاعتِهِ مَن يَأْذَنُ اللهُ تعالى لَهُ، صاحبَ التَّوحيدِ الَّذي لم يتَّخِذْ شَفِيعًا مِن دونِ اللهِ.

والشَّفاعةُ التي أَثْبتَهَا اللهُ تعالى ورسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي الشَّفاعةُ الصَّادِرَةُ عن إذْنِهِ لمَنْ وَحَّدَهُ، والتي نَفَاهَا اللهُ تعالى هي الشَّفاعةُ الشِّرْكيَّةُ التي في قُلُوبِ المشركينَ المتَّخِذِينَ مِن دونِ اللهِ شُفَعَاءَ، فيُعَامَلُونَ بنَقِيضِ مَقْصُودِهِم مِن شَفَاعتِهِم، ويَفُوزُ بها المُوحِّدُونَ) انتهَى.

وقال في الصواعق المرسلة: (والله سبحانه حاجَّ عبادَه على ألسنِ رسلِه وأنبيائه فيما أراد تقريرَهم به وإلزامَهم إيَّاه بأقرب الطرق إلى العقل وأسهلها تناولاً وأقلها تكلفاً وأعظمها غَناءً ونفعاً، وأجلها ثمرة وفائدة.

فحججه سبحانه العقلية التي بينها في كتابه جمعت بين كونها:

-عقلية سمعية.

-ظاهرة واضحة.

-قليلة المقدمات.

-سهلة الفهم.

-قريبة التناول.

-قاطعة للشكوك والشُّبَه.

-ملزمة للمعاند والجاحد.

ولهذا كانت المعارف التي استنبطت منها في القلوب أرسخُ، ولعموم الخلق أنفع.

وإذا تتبع المتتبع ما في كتاب الله مما حاجَّ به عباده في إقامة التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات الرسالة والنبوة، وإثبات المعاد وحشر الأجساد، وطرق إثبات علمه بكل خفي وظاهر، وعموم قدرته ومشيئته، وتفرده بالملك والتدبير، وأنه لا يستحق العبادة سواه = وجد الأمر في ذلك على ما ذكرناه من تصرف المخاطبة منه سبحانه في ذلك على أجلِّ وجوه الحجاج، وأسبقها إلى القلوب، وأعظمها ملاءمة للعقول، وأبعدها من الشكوك والشبه، في أوجز لفظ وأبينه، وأعذبه وأحسنه، وأرشقه وأدله على المراد.

وذلك مثل قوله تعالى فيما حاج به عباده من إقامة التوحيد وبطلان الشرك وقطع أسبابه وحسم مواده كلها:

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)

فتأمَّلْ كيف أخذَتْ هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك؟!!

وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه؟!!

فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه وإلا فلو لم يرجُ منه منفعةً لم يتعلَّقْ قلبه به.

وحينئذ فلا بدَّ أن يكون المعبودُ:

-مالكاً للأسباب التي ينفع بها عابده.

-أو شريكاً لمالكها.

-أو ظهيرا أو وزيراً ومعاوناً له.

-أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده.

فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت موادُّه.

فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقالَ ذرَّة في السموات والأرض.

فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق!

فنفى شركتها له.

فيقول المشرك: قد تكون ظهيراً ووزيراً ومعاوناً!

فقال: (وماله منهم من ظهير)

فلم يبقَ إلا الشفاعة؛ فنفاها عن آلهتهم.

وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؛ فهو الذي يأذنُ للشافع؛ فإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين؛ فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها.

وأما منْ كلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليه بذاتِهِ، وهو الغني بذاتِهِ عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه؟!!).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير