تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

المجتمع الإسلامي، قد تمكنت من استغلال هذه الفتنة، وحتى في تسريع نتائجها بشكل أو بآخر، لكن هذا لن يلغي أن النتائج كانت ستحدث في كل الأحوال، فالمؤامرة نادراً ما تغير مسار التاريخ، لكن التاريخ يتغير على نار هادئة قد لا يلاحظها أحد لفترة طويلة، إلى أن يحدث «الغليان» فجأة، فيفسر الأمر بهذا السبب أو ذاك.

مؤامرة ابن العلقمي لا تشكل فرقاً عن هذا، فالمؤامرة هنا تنسب لفرد معين، يمثل طائفة بعينها، وتحمله مسؤولية انهيار دولة الخلافة العباسية، عبر تعاونه (أي تعاون الطائفة) مع المغول، وهو التعاون الذي لم ينكره مؤرخو الطائفة المعنية أنفسهم بل قام بعض فقهائهم بتأصيله وشرعنته، لكن ذلك التعاون لن يكفي لتفسير ما حدث (بعد كل شيء، ما دام ابن العلقمي فاسداً وخائناً لهذه الدرجة، فما الذي جعله أصلاً في منصب وزير الخليفة غير سلطة فاسدة مثله؟!) فالتعاون جاء في مرحلة أخيرة وقبل سقوط العاصمة بقليل، أي إن المغول كانوا قد توغلوا في عمق الدولة ووصلوا إلى مشارفها، وحدث خلال ذلك تعاون من أمراء وولاة آخرين، لم يدخلوا في الوعي التاريخي الشعبي كما فعل ابن العلقمي، لأنهم لم يدخلوا في النسق اللازم لإنتاج نظرية المؤامرة (بعبارة أخرى: لم يكونوا من طائفة أو أقلية أخرى) والتركيز على هذا الفرد نيابة عن الطائفة في تفسير انهيار الدولة يلغي السنن الإلهية التي تتحكم في صعود وانهيار المجتمعات، ويجعلنا نغض النظر عن حقيقة أن الدولة العباسية كانت - في تلك الفترة على الأقل- قد أوغلت في فساد وانحدار وتفكك جعلها عرضة للسقوط، كما أنه يُغفل طبيعة القوة الشابة الجديدة (المغول)، الذين كانوا في أوج قوتهم، ولم يلحقهم ما كان لحق المسلمين من ترف وضعف .. الشيء ذاته تقريباً هو الذي يطبق على يهود الدونمة وسقوط الدولة العثمانية، فالتركيز على مؤامرة اليهود هنا سيوحي بأن الدولة العثمانية كانت ستستمر في الحياة لولا مؤامرة اليهود، وهذا يجعلنا نغض النظر عن حقيقة تردي أوضاعها وشيخوخة هياكلها وابتعادها عن العلم وسننه وهي حقائق جعلت سقوط الدولة العثمانية محتماً، سواء حدثت هذه المؤامرة أو تلك.

وكما هو واضح من هذه الأمثلة، تعطي هذه النظرية الأولوية للمؤامرة لفهم أحداث التاريخ، وتغفل بذلك الأسباب الموضوعية المعقدة المتداخلة الكامنة في بنية الحراك الاجتماعي التي قد تدفعه إلى الأعلى، أو تجعله راكداً معرضاً للسقوط، أو قد تدفعه إلى السقوط، ما دور الأعداء هنا؟ .. بالتأكيد لهم دورهم، إنه دور «العدو» - بالتعريف- الذي سيستغل مظاهر الضعف عندما تبرز، ويستثمرها لصالحه: فإذا بالتمزقات الاجتماعية الناتجة عن تناقضات في هيكلية المجتمع تصبح ثغرات يتسلل منها العدو ليُجهز على المجتمع وكيانه. لكن هذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت هناك ثغرات ابتداءً، وسواء دخل هذا العدو عبر هذه المؤامرة وتفاصيلها، أو عبر مؤامرة أخرى، فإن «عدواً» ما يجب أن يتسلل، كتحصيل حاصل لطبيعة الأشياء ومسارها.

لكن لماذا أصلاً تنتشر نظرية المؤامرة بهذا الشكل العالمي العابر للأزمان والقارات؟ .. أسباب انتشارها هي الأسباب نفسها التي تبدو أنها ستكون سبب عدم انتشارها. فالرؤية التي تقدمها لعالم مسطح ترجع كل الأمور السيئة إلى سبب واحد هو العدو، هي التي تجعل عموم الناس يميلون إلى تصديقها، ذلك أن العالم هكذا سيبدو أكثر أمناً وبساطة عندما يفسر السوء بأنه قد جاء من جهة واحدة فقط هي مصدر كل الشرور والمصائب، فهذا سيجعل الناس مقتنعين أنهم على صواب، أو أن تاريخهم كان على صواب، وأن الشرور والكوارث لا تأتي إلا من عدو خارجي متربص، وأن الذات سليمة تماماً لا تحتاج إلى مراجعة أو نقد أو حتى تقويم. نظرية المؤامرة تمرر رسالة يريد الناس أن تصلهم، رسالة تقول لهم إن الحق دوماً على «عدو» ما، وكفى الله المؤمنين شر مواجهة أخطائهم. ولأن الحقَّ على العدو دوماً، والخطأَ خطؤُه، فلا شيء هناك يمكن عمله، أو كان يمكن عمله، غير بعض اليقظة تجاه هذا العدو .. ومن أسباب قوة هذه النظرية، وضعفها في آن، أنها غير قابلة للبرهنة حتماً، فأدلتها مخفية بالتعريف، فما دامت هناك مؤامرة فلا بد أن كل شيء أخفي تماماً، وما دامت غير قابلة للبرهنة، فهي في الوقت نفسه غير قابلة للدحض، لأنه لا دليل عليها تُمكن مناقشته بطريقة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير