وبمقدار فقه الواقع وبحجم استيعابه وبمقدار إبصار أسرار النصوص ومقاصدها ينجح المجتهد والمفكر في تحقيق أغراض الدين ومقاصده وتدبير الدنيا وتنميتها فالدين كما يقول الشاطبي ما وضع الا لمصالح العباد في العاجل والآجل معا. وإن من الذين أغنوا الفقه الإسلامي،وكانت لهم القدم الراسخة في الاجتهاد والقدح المعلى في الاستنباط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي المعافري ت 543هـ وذلك من خلال نظرته للاجتهاد وضوابطه ومظاهره عنده.
المطلب الأول: حقيقة الاجتهاد عند العربي
عرف أبو بكربن العربي الاجتهاد بقوله:"هو بذل الجهد واستنفاذ الوسع في طلب الصواب" (1) وهذا تعريف دقيق ينطوي على أمور وهي:
1ـ إن المراد ببذل الجهد وأستفراغ الوسع هو القدرة وحصوله الملكة على توظيف الأدلة الشرعية، ومراعاة قوتها في استنباط الأحكام الشرعية، وهي التي أشار إليها ابن العربي في المحصول بقوله:" إذا نزلت نازلة فعلى المجتهد أربعة فروض: أن يطلبها في كتاب الله عز وجل، وقد عد العلماء آيات الله الأحكامية فوجدوها خمسمائة آية وقد يزيد عليها بحسب تبحر الناظر وسعة علمه، فإن لم يجدها فعليه أن يطلبها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدها فعليه أن يطلبها في مسائل الصحابة وقضايا التابعين إجماعا واختلافا، وما ضل من اقتفى آثارهم واقتدى، فإن لم يجدها عندهم متفقا عليها أو لم يجدها أصلا فعليه فبما اختلفوا فيه، وفيما لم يسمعه أن يرده إلى أصل من هذه الأصول الثلاثة المتقدمة، إما بتعليل وإما بشبه وإما بدليل، هذا إن كانت من مسائل الخلاف، وإن كان منشأ الاختلاف فيها أو مدار إشكالها من مثار لفظ، فعليه أن يطلبها في لغة العرب فإن وجده واضحا بنى عليه وإن وجده مشكلا كشفه وإما بآية وإما بحديث وإما بتعليل يظهر به كون أحد الوجهين أقوى من الآخر وإما بشبه يقوي أحد الاحتمالين ويرجح الوجهين. (2)
فاستفراغ الوسع في تحصيل الأدلة والاعتناء ببسطها يكسب ملكة معالجة النوازل وطلب أحكامها من مظانها يقول ابن العربي:" وينبغي أن يعتني ببسط الأدلة وإيضاح سبل النظر، وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد، فإذا عرضت النازلة أتيت من بابها ونشدت في مظانها والله يفتح صوابها. ((3)
2 - إن بذل الوسع والجهد في استنطاق النصوص الشرعية إنما هو في حق العلماء القادرين عليه للكشف عن حكم الله تعالى في كل عصر وفي كل نازلة بالنظر فيما لا نص فيه (4) ويخرج بهذا عمل المقلد والمقصر والعاجز فإنه لا يعد اجتهادا معتبرا. (5)
3 - إن التعبير باستفراغ الوسع دليل على أن المجتهد لا يقف دون النظر من أول وهلة، بل عليه أن يستعمل النظر، ويبحث عن الحكم لأية مسألة تعرض عليه بمختلف مسالك البحث، فالمجتهد يتميزعن غيره من الناس بأنه يلحظ القول من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويستنطقه من كل وجه يراه صالحا للاستنطاق، ويعدي معناه أوعلته إلى ما لا نص فيه، وإن لم يتبين له وجه للتعدية قصر الحكم على محله خاصة، ولم يلحق به سواه. (6)
4 - إن المراد بطلب الصواب هو الرجحان الظن لا غير، لأن حكم الله تعالى قد يصادفه المجتهد وقد لا يصادفه كما أن الأشبه من الأصلين قد لا يتوصل إليه، وذلك لعدة عوائق تعوق النظر، وما يمكن الوصول إليه في الاجتهاد هو الإنتهاء إلى درجة يغلب على الظن فيها أن ذلك هو المطلوب والصواب في النازلة موضوع الاجتهاد. وأن ذلك هو نظير ما وقع البيان من الله فيه. يقول ابن العربي:" وهذا هو الصحيح لأن حكم الله قد خفي علينا،وإلا شبه قد لا يوصل إليه لعائق في النظر، فأما الانتهاء إلى درجة يغلب على الظن فيها المظنون فهو ممكن. (7)
واعتقد أن هذا صحيح، ذلك أن الاجتهاد لا يلجأ إليه إلا عند عدم ورود نص قاطع، وحين يغيب النص الفاصل تزدحم الظنون، وتكثر الاحتمالات وتتنوع التقديرات غير المتناهية، والمخرج من ذلك كله هو ترجيح بعض الظنون والاحتمالات على البعض الآخر، وتقرير الأحكام بناء على ذلك، وهذا التقرير يكون قائما على غلبة الظن، والمبني على غلبة الظن ظني، والمجتهد غير مطالب بأكثر من هذا عقلا وشرعا. (8)
5 - إذا كان الاجتهاد هو معرفة وجه الصواب في المسألة وموقع الحجة فيها، وأن ذلك مبني على غلبة الظن فأنه يتركب على هذا أمور ثلاثة:
¥