{وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض}
وأي اضطراب في هذا الميزان الإلهي يجر وراءه أذى على المسلم في جانب من جوانبه وأذى على المجتمع المسلم في الجانب المقابل.
فحيث لا يراعي المسلم في ماله إلا الدار الآخرة فإنه منفق كل ماله في سبيلها , وهذا يضر بمصلحة المسلم نفسه أو يضر بأهله وعياله وفي الأثر الشريف ((عن عامر بن سعد عن أبيه قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت فقلت يا رسول الله إنه بلغ بي ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟؟ قال: لا. قلت: أفأتصدق بشطره؟؟ قال: لا الثلث والثلث كثير فإنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك .. ))
وحين يستولي المال على قلب صاحبه , وتستولي عليه أثرة النفس , فلا يراعي إلا خاصة أمره , فإن هذا يجر إلى ضر كبير على المجتمع المسلم إذ سيهضم حق المسكين الفقير في مال الغني الذي أقره الله
{وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}
فالمنهج الإسلامي إذن قد توسط في توظيف المال بين الآخرة والدنيا , فلا هو للآخرة بكله , ولا هو للدنيا بكله , وإنما هي الوسطية التي أخذت من الآخرة بطرف ومن الدنيا بطرف , مع مراعاة الأولويات طبعا , فكان من هذا المنهج الاعتدال واليسر والاستقامة ..
* * *
ونرجع إلى الصنف الثاني من الناس في القصة ..
وهذا الصنف أيضا نراه رأي العين قائم في كل جيل وفي كل مجتمع , وهو صنف ضعيف الإيمان , يؤخذ بالمظهر البراق , ولضعفه نراه تخدعه مظاهر العز والوجاهة والترف في الأغنياء الموسرين , فتتحرك في نفسه الأهواء , ويتطلع لهذا النعيم الظاهر , ويتمنى أن لو أن الأقدار حبته بما حبتهم.
{وخرج على قومه في زنته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم}
وهذا الصنف من الناس لا تجده في الغالب إلا متأرجحا بين هاتين القيمتين –قيمة العلم والإيمان وقيمة الغنى والمال- يتمنى -وقد تلبدت على قلبه الغفلة- غنى الغني ونعيمه , ثم ما يلبث -وقد تداركته رحمة ربه- أن يستفيق من غفلته فيرى بنور الإيمان , ليعرف أن أمانيه بالأمس إن هي إلا شعبة من شعاب الخسران والضياع والحجاب عن الله ..
{فأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكانه لا يفلح الكافرون}
ولكن هل نريد أن المسلم لا يجوز له أن يتمنى الغنى؟؟!!
وهل على المسلم أن يعيش فقيرا بائسا معدما؟؟!!
والجواب عن ذلك أن للمسلم أن يتمنى الغنى ويطلبه بل ويحرص عليه متى ما وجد المسلم في نفسه حصانة إيمانية تقيه الانزلاق في مهوى هذه القيمة العارضة –قيمة المال- لأن المال بطبيعته زينة من زينة الحياة , وإن القلب لينصرف لهذه الزينة حين لا يكون ثمة إيمانا فيه يقي ويحفظ , وللمسلم أيضا أن يحرص على الغنى متى ما وجد في نفسه همة صادقة خالصة لإنفاق هذا المال في وجوه الخير والصلاح .. حينئذ يكون المال غاية تطلب ومقصدا يراد وقد قال سليمان
{رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب}
ثم إن الغنى ضرب من ضروب القوة , والقوة مرادة للمسلم , إذ المسلم القوي خير وأحب إلى الله من المسلم الضعيف ولهذا الاعتبار أيضا يستقيم للمسلم أن يحرص على الغنى.
ويبدو أن الثلة المؤمنة من قوم موسى قد أحسوا في نفوس إخوانهم انصرافا كاملا لهذه القيمة فجاء كلامهم على هذا النحو, فيه معنى الشدة والزجر.
* * *
وبعد .. بقي الصنف الثالث من الناس ..
وهو الآخر صنف قائم في كل جيل وفي كل أمة , إلا أنه لا يكون إلا قليلا في الناس , ولكن من شأن هذه القلة من المؤمنين –إذا تجردت لله- أن تقوّم موازين المجتمع وأن تزيل الغبش عن أفهام الناس وأن تصحح في الحياة طبيعة القيم التي يدور المجتمع في فلكها.
{وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون}
إن الغنى هو غنى الإيمان , هو غنى القلب , هو غنى النفس الراضية المطمئنة بالله تعالى المستغنية به سبحانه عن كل شيء , هو غنى النفس التي وقر فيها أن الإيمان رصيد لا ينفد وملك لا يبيد لأنه صلة بالله تعالى الغني القوي القادر , ولهذا المعنى الجميل كان بعض السلف يدعو "اللهم اغننا بافتقارنا إليك ولا تفقرنا باستغنائنا عنك".
وأن الفقر إنما هو فقر الفؤاد من الإيمان , هو الإفلاس في عالم الضمير , هو فقر النفس التي لم يملأها الإيمان , فراحت تطلب من الحياة ما يشبع نهمها , والنفس متى فرغت من الإيمان فرغت من كل شيء , ولو كان للنفس المحجوبة عن الله واد من ذهب لما رضيت ولو كان لها واديان ما رضيت ولن يملأها إلا الإيمان وهي حية .. ولن يملأها إلا التراب وقد توفها الله ..
* * *
جملة القول ..
الله تعالى هو الغنى مالك الملك , والله تعالى هو القوي القادر , ومن استغنى بالله عن إيمان راسخ ويقين ثابت أغناه الله عن غيره وكفاه , ومن استقوى بالله عن إيمان ويقين أمده الله بجنود من عنده , وتلك هي قيمة الحياة الثابتة الأصيلة.
والإنسان خلق ضعيف , ولضعفه تحجبه القيم الزائفة العارضة .. النافشة في الحياة بغير جذور , قيمة العلم والمال حين يوظفان توظيفا خاطئا وقيمة السلطان والرياسة حين توظف هي الأخرى توظيفا خاطئا , فيتعلق المرء بها , ويركن إليها , ويريه الشيطان أنه كبير .. قوي .. قدير , وهو -لو تنبه- خلق ضعيف جد ضعيف أمام مقادير الله , فما هي إلا أن ينزل به أمر الله فكأن لم يغن بالأمس , وما هي إلا أن يحق عليه القول فكأن لم يك شيئا , وما هي إلا أن يقضي الله القوي فيه قضاءه فإذا السلطان المتجبر العاتي لقمة سائغة تلوكها لجج اليم الغامر , وإذا الغني المتغطرس وقد كان يتعالى على الناس فوق الأرض إذا به خاسئ مهين تحت طباق الأرض ودون مواطئ الأقدام ..
وذلك جزاء المتعالين المفسدين في الأرض
{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}
* * *