فصنف أعمى البصيرة , ضعيف النفس , قد حجبه المال عن الله تعالى , فختم الله على قلبه , ومده في طغيانه , ومكر به من حيث لا يحتسب , فلم يفق من سكرته إلا والأرض تلتقمه شيئا فشيئا وذاك هو قارون الذي بغى
{فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين}
ولا يخلو مجتمع من المجتمعات من هذا الصنف من الناس ممن ينعم الله عليه ويمدده بأموال وبنين ويجعل له جنات ويجعل له انهارا فتستحوذ عليه هذه القيمة الزائفة العارضة –قيمة المال-ويحسب أن لن يقدر عليه أحد , فإذا بفؤاده قد فرغ من الله , وإذا بالمال يكون حجابا لقلبه عن الله , وإذا به عبد لأمواله وإن تزيى بزي الأسياد.
* * *
وإن الله تعالى ليبتلي الغني بالغنى ابتلاءه الفقير بالفقر , لا بل لعل فتنة الغنى أشد على النفس من فتنة الفقر , لأن المرء مع الغنى يمسك عن النفس هواها وهو مستطيع له قادر عليه , بينما يكف النفس حين فقره وهي عاجزة عن إتيان مرادها لا تستطيع بلوغه , ومن ذلك كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقول: ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
وقد يخسف الله بهذا الصنف من الناس من حيث لا يشعرون , وليس بالضرورة أن يكون الخسف خسفا حسيا تراه العين كخسف قارون , إذ كم من مترف خسف الله به فهو في ظلمات ليست ظلمات الأرض بأشد منها .. وهو لاه لا يدري.
فقد يبتلي الله الغني الباغي بانحطاط في خلقه ودناءة في طبعه , وفي انحطاط الأخلاق ودناءة الطبع معنى من معاني الخسف.
وقد يبتلي الله الغني الباغي إذ يسلط عليه حب الدنيا والتهالك عليها فيملأ من خزانته بقدر ما يُفرغ من فؤاده , وتشبع نفسه بقدر ما تجوع روحه , وفي فراغ الفؤاد من الله وفي مخمصة الروح معنى من معاني الخسف.
وقد ينعم الله على الفقير بالعافية والقوة ويحرمها الغني الباغي , فيجمع الله عليه عذابين , عذاب في جسمه أمراضا وأسقاما وآلاما , وعذاب في ماله التياعا وحسرة أن حرم التنعم به , وفي ذلك معنى من معاني الخسف.
وقد يكون المال في بعض أحواله أداة للتباغض والخصام , ومادة القطيعة والفصال , وباعثا للأنانية المفرطة التي توهم الغني أن دنياه غير دنيا الناس وأن الناموس الذي يجري عليه غير الناموس الذي يجري على الناس , وأنه .. وأنه .. وهذا معنى من معاني الخسف.
وقارون كان قد خُسف به خسفا معنويا باطنا قبل أن يخسف به خسفا حسيا ظاهرا وهو لا يدري ..
وحسبك معنى من معاني الخسف أنه حُجب عن الله , وعميت بصيرته , حتى جحد نعمة الله عليه وأنكر فضله تعالى
{قال إنما أوتيته على علم عندي}
وهي كلمة نسمعها من المحجوبين عن الله من أهل الترف والغنى , ممن لا يرون في أموالهم للمساكين والفقراء حق , بل لعلهم يتمادون في غيهم في بعض الأحيان فيرون أن لا حق لله في أموالهم ولسان حالهم يقول ..
أموالنا نحن الذين جمعناها .. فلسا فلسا!!
ونحن الذين سهرنا عليها!!
ونحن الذين رعينا مصالحنا وسعينا ليل نهار واحتفرنا الصخر وقطعنا القفر!!
ومهما اختلف القول , وتعددت أساليبه فهو آخر الأمر مندرج تحت معنى
{إنما أوتيته على علم عندي}
* * *
وقبل أن ننتقل إلى الصنف الثاني من الناس في القصة نقف وقفة يسيرة عند قوله تعالى
{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله غليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين}
فنحن هنا أمام وسطية المنهج الإسلامي الذي يضع الأمور مواضعها اللائقة بها.
إن المال في التصور الإسلامي وسيلة لا غاية , وسيلة لغاية إنسانية أرفع منه وأسمى , وهو قبل ذلك أمانة يستخلف الله عليها الغني ليرى ماذا يكون منه
{ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون}
فالمال –مال المسلم-موقوف بالدرجة الأولى للدار الآخرة , ثم يأتي بعد ذلك نصيب الإنسان من الحياة الدنيا , والإسلام لا يحرم على المسلم أن يتمتع بماله الذي جعل الله له قياما , والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده , وقد أمر سبحانه أن يأخذ المسلم زينته عند كل مسجد , على أن تكون هنالك أولويات يراعيها المسلم في ماله , وأولويات الآخرة في المنهج الإسلامي مقدمة على أولويات الدنيا ..
والخروج عن هذا النهج الإلهي في الأموال إنما هو ضرب من ضروب الفساد في الأرض وقد قال قوم قارون لقارون
¥