تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن هنا لما كذب المنكرون بالقرآن للقرآن، نعى الله عليهم ضآلة تفكيرهم وضحالته وقصور إدراكهم وضعف بصرهم عن أن يستوعبوا بعده الكوني الضارب في بحار الغيب، فقال تعالى: ?وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا? (الفرقان:5 - 6) وإنه لرد عميق جداً. ومن هنا جاء متحدثاً عن كثير من السر في السماوات والأرض؛ قال عز وجل: ?وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً? (الكهف:54)، وقال جل وعلا: ?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ? (فصلت:53 - 54).

الثانية: القرآن معراج التعرف إلى الله

إن أول مقاصد القرآن الكريم إنما هو تعريف الناس بالله، المتكلم بالقرآن. ولذلك جاء تعريف الله لذاته سبحانه بأسمائه الحسنى مباشرة بعد التنبيه على عظمة هذا القرآن -كما جاء في سورة الحشر- كأنه قال: اعرف القرآن أولاً تعرف الله. أَوَليس هو تعالى المتكلمَ بالقرآن؟ قال جل وعلا: ?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ? (الحشر:21)، فقال بعدها مباشرة: ?هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ? (الحشر:22 - 23).

إن الذي ينصت إلى خطاب الفطرة في نفسه يسمع نداء عميقا يترجم الرغبة في معرفة من أسدى إليه نعمة الوجود، ذلك الإنسان مفطور على شكر من وصله بمعروف. ومن هنا نخلص إلى نتيجة وهي "حق الخالقية" هو مفتاح التعرف إلى الله.

وهذه حقيقة قرآنية كبرى تترتب عليها أمور كبيرة في حياة الإنسان. ذلك أنه كلما نادى الله الناس في القرآن بالاستجابة لأمره التعبدي ناداهم من حيث هو خالقهم، هكذا، بهذه الصفة دائماً، وهو أمر مهم فيما نحن فيه من طريق المعرفة بالله، أي إنه تعالى يسألهم أداء "حق الخالقية"، هذه الصفة العظيمة لذاته تعالى، التي بها كنا نحن الناس هنا في الأرض نتنفس الحياة. قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ? (البقرة:21 - 22)، وقال سبحانه: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً? (النساء:1).

هاتان آيتان كليتان من القرآن العظيم، تعلق الأمر فيهما بالعبادة والتقوى، وما في معناهما من الانتظام في سلك العابدين، وفلك السائرين إلى الله رب العالمين، إثباتاً لحق الله من حيث هو خالق للبشر. ولا يفتأ القرآن يذكّر بهذه الحقيقة باعتبارها مبدءاً كليا من مبادئ الدين والتدين، وأنها العلة الأولى منه، وذلك نحو قوله تعالى: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ? (الذاريات:51) إنها آية كونية عظمى .. إنها مفتاح من مفاتيح فهم القرآن العظيم، وباب من أبواب معرفة الربوبية العليا .. قال تعالى في سياق الحِجاج: ?مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا? (نوح:13 - 14). إنه تعالى ربط حقه سبحانه على عباده بمبدإ خلقهم أطوارا .. فكلما ازداد المنكرون تعنتا ازداد القرآن إفحاما في بيان تفاصيل الخلق. فتلك حجة الله

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير