تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

البالغة إجمالا وتفصيلاً.

وكما كانت تلك هي حجة القرآن في الدعوة إلى العبادة، وإثبات "حق الخالقية" لله الواحد القهار؛ كانت هي عينُها حجته في الدعوة إلى التوحيد ونفي الحق الوهمي للشركاء، وذلك كما في قوله تعالى: ?اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ? (الروم:40). وبهذا المنطق أيضا رد الله على المشركين، كما في قوله تعالى: ?أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ? (الأعراف:191). وقوله سبحانه: ?أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ? (النحل:17). فما كان هذا البيان والتفصيل لقضية الخلق ليكون؛ لولا أنها قضية كونية كبرى، ينبني عليها ما ينبني من مصير وجودي في حياة الإنسان، هذا المخاطب بها ابتداء.

إن "قضية الخلق" تمثل مفتاح فهم الربوبية، إنها المبدأ الكلي الذي على أساسه خاطب الله الإنسان بكل أمر ونهي، بل إنها تمثل البنية الأساس لخطابه، الذي عليه يتفرع كل شيء، مما قرره في العقيدة والشريعة على السواء. نعم، "حق الخالقية" إذن هو مفتاح التعرف إلى الله جل وعلا.

إن إحساس الإنسان بوجوب هذا الحق عليه يخرجه من التيه الوجودي، أو بعبارة قرآنية يخرجه ?مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ? (البقرة:257). وأيّ ظلام أشد من التصور العبثي للحياة! فبأي نفسية يعيش الإنسان هذه الحياة وهو يرى أنما غايتها إلى العدم المطلق والفناء الرهيب، الذي ما بعده حياة؟!

إن السالك حينما يذوق من معرفة الله لمعات وأنوارا يتعلق قلبه بحب الله تعالى، لأنه هو الذي أوجده وخلقه، وإنما يجد الجمال الحق في تلك المعرفة .. وإنما نرى جمال الله سبحانه وتعالى في شعورنا القوي بجمال خالقيته تعالى وكمال قيوميته وحسن إجابته وكرم رعايته، وقرب رحمته وأنسه.

فلم يكن عبثاً إذن أن يتوارد ذكر الأسماء الحسنى والصفات الإلهية العلا عبر كل فصول القرآن. فهي كالنجوم الدرية تتلألأ بالنور الرباني العظيم في تلك المسافات جميعاً، ما بين السوابق واللواحق والقرائن، بما يجلي للعبد الذاكر جمال الله وجمال المعرفة به، فيعبّد له طريقها سالكة جلية. ولكن كل ذلك إنما يكون على قدر شهود القلب وصفاء البصيرة وصدق الإقبال على الله عند الدخول في مشاهد الذكر والتلاوة للكتاب.

إن العبد الذي أيقن بمعرفة الله يفيض قلبه بالمحبة، محبة كل شيء، إذ يجد أخوة إيمانية في وجدانه مع كل شيء من الكائنات، عدا من تولّى. فالكل مستغرق في عبادة الله سائر إليه عبر مسالك المحبة ?تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا? (الإسراء:44). ولقد جعل الله لنبيه داود معجزةَ كشفٍ لبعض ذلك، فكانت الجبال والطير تسبح بتسبيحه وتدعو بدعائه، في مجالس تفيض بالنور والجمال، تلتقي على موعد بالغدو والآصال، كما في قوله تعالى: ?إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ? (ص:18 - 19). إن الكون كله في وجدان المسلم مثل طيور داود عليه السلام، مجالس أنس وذكر تشعره بالأخوة الكبرى في السير إلى الله عبر أفلاك العبودية: ?كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ? (الأنبياء:21)، فالمعرفة طريق لا تنفد تجلياتها، ولا تنتهي إشراقاتها إلا بلقاء الله، حيث ينكشف سر السير إلى الله: ?وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ? (الحجر:99)، ويرى العبد هناك بعين اليقين حقيقة الوجود الدنيوي من خلال وجوده الأخروي: ?لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ? (ق:22).

إن المعرفة بالله تملأ القلب أنسا بالله، ثم أنسا بالحياة، وأنسا بالكون والكائنات، وأنسا حتى بالموت الذي لن يرى فيه العبد المحب -إذ يقف عليه- إلا موعدا جميلا، للقاء جميل، مع رب جميل. فذلك ذوق الإحسان في قمة المشاهدات الإيمانية. وإنما "الإحسان أن تعبد اللهَ كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (متفق عليه).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير