تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وعليه فإن هذا الإنسان بما هو مخاطب بهذا القرآن أساسا بأبعاده "الأمرية" المذكورة هو إنسان "كوني" بامتياز. فهو لا يسكن الأرض إلا بقدر ما يسكن الكون كلَّه حقيقة. وبما أن البشر شتى خلقا وتقديرا وسعيا وتدبيرا، فقد كان هذا القرآن على نفس تلك السعة والشمول من الإمكانات المتصورة للنشاط الإنساني في الأرض على الإطلاق. ولذلك جاء جامعا لكل معارج الكتب السماوية السابقة بدون استثناء؛ ففيه معارج إبراهيم ومعارج موسى ومعارج داود ومعارج عيسى ثم فيه معارج أخرى فُضْل تفرد بها القرآن الكريم لم تفتح قبله قط في التاريخ. وكل ذلك جميعه كان معارج لنبي هذه الأمة الرسول الجامع المانع سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.

إن هذا القرآن بعمقه الكوني هذا، المطلق عن الزمان والمكان يحقق أخوة إنسانية كبرى، لا يمكن أن تتحقق على هذا الوزان بسواه؛ لأنه شبكة اتصال وجودية ذات أنسجة أفقية وعمودية، فيها مداخلُ لا حصر لها للإمكانات البشرية. ولذلك فهو يتيح لكل إنسان مهما كانت ميوله وإمكاناته الطبيعية والفطرية والاجتماعية والثقافية أن يتصل بحقائق الوجود الحق: ?وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ? (الشورى:52 - 53). وبما أن شبكته موئلها -في نهاية المطاف- واحد، فهي تصل في الختم إلى الحق الواحد ?أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ? (الشورى:53)، وهنالك يجد المؤمن لذة التعرف إلى الله جل وعلا.

بناء على ما تقرر من أن غاية الخلق الإلهي للإنسان إنما هي التعرف إلى الله جل علاه، فقد جعل له صلى الله عليه وسلم وسيلة من أعظم الوسائل التعبدية، ألا وهي التعارف. فالإنسان بما هو مفطور خلقة على سنة الاجتماع البشري -إذ خلق من ذكر وأنثى وجعل شعوبا وقبائل- فقد خلقت أرواح الناس لتلك الغاية على ائتلاف واختلاف بقصد إنتاج التكامل المعرفي في طريق السير إلى الله تعالى. وهذا من أعجب السنن الإلهية في الخلق البشري وألطفها، وهو مفهوم من آية قرآنية وحديث نبوي شريف. فأما الآية فقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ? (الحجرات:13). وأما الحديث فهو قوله عليه الصلاة والسلام: "الأرواح جنود مُجنَّدة، فما تعارف منها ائْتلف، وما تناكر منها اختلف" (متفق عليه).

إن التعارف العمراني ضروري للإنسان، ليس فقط لأنه لا يمكن أن يعيش بصورة انفرادية اعتزالية، فهذا أمر بديهي، ولكن ليكون ذلك مقدمة لإنتاج حوار في المجال الروحي، والتداول المعرفي بحقيقة المعرفة بالله في طريق السير إلى الله.

إن العلاقات الأفقية على المستوى البشري العمراني في شبكة الاتصال المعرفية إذا أتيحت لها ظروف الحوار الهادئ الصادق، والتعارف البناء الواثق، تفضي في النهاية إلى علاقات عمودية متوازنة ترتفع بالإنسان إلى السماء في طريق معرفة الله، بل في طريق التكامل في تلك المعرفة.

إن هذا القرآن محفوظ بحفظ الله محروس بقدرته جل علاه، كما نص عليه القرآن بآيه المحكم وكما رسخته حقائق التاريخ الطويل. ومن هنا فإن كل من تعلق بمحفوظ فهو محفوظ بالضرورة.

المصدر: مجلة حراء ( http://www.hiramagazine.com/archives_show.php?ID=210&ISSUE=1) .

مقالات أخرى للكاتب هنا ( http://www.hiramagazine.com/author_show.php?Y_ID=8) .

ـ[أبو يعقوب]ــــــــ[04 Mar 2008, 04:39 م]ـ

بارك الله فيك

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير