والتحول عن الماضي (جعلنا) إلى فعل الأمر (اتخذوا) فيه شد لانتباه المتلقي للنص القرآني، وذلك "لتقوية" روابط الاتصال بينه وبين النص؛ لأن السياق القصصي المروي ليس غريباً عنه، وإنما يحتوي على أمور تهمه وتتصل به، يجب الحرص عليها وإحياؤها، لتكون مسيرته موصولة بتراث سابقيه" ().
ويرى الزمخشري () أن هناك فعلاً ماضياً محذوفاً تقديره: "قلنا" قبل فعل الأمر (اتخذوا)، أي: وقلنا اتخذوا، وذلك لاطراد الأفعال الماضية في السياق، ولتختفي المخالفة في الأفعال، والحقيقة أن الحذف نفسه على -رأي الزمخشري- قد أظهر فعل الأمر بارزاً في السياق لدلالة مراده ينبغي التوقف عندها وفهمها، وهي -كما ذكرنا- مقصود منها شد انتباه المتلقي للعمل بهذا التوجيه الإلهي من اتخاذ مقام إبراهيم مصلى، ثم استمر السياق في السرد الحكائي للأحداث الماضية بعد ذلك.
ويحسن التنويه في هذا السياق إلى قراءة نافع وابن عامر بصيغة الماضي (واتَّخَذُوا) بفتح الخاء، وعلى هذه القراءة ينتفي التحول، إذ يصبح السياق كله سياق سرد ماضٍ، وتمثل كل قراءة وجهاً من وجوه الإعجاز القرآني، فورود القراءة بصيغة الماضي (واتَّخَذُوا) تفيد الإخبار عن الأمم السابقة من المؤمنين أنهم اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.
ويرى ابن خالويه (ت 370هـ) (): "أن الله أمر بذلك المسلمين من هذه الأمة مبتدئاً ففعلوا ما أمروا به فأثنى بذلك عليهم وأخبر به، وأنزله في العرضة الثانية".
فتكون القراءة بالإخبار عن وقوع الفعل قد تنزلت بعد قراءة الأمر به، وترتبت عليها، فجمع نسق الآية هذين المعنيين بقراءتيه، أي: قال لهم المولى عزوجل: اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فاتخذوه مصلى.
الصورة السادسة: التحول عن فعل الأمر إلى المضارع
قد يأتي فعل الأمر ابتداء ثم يتحول عنه إلى الفعل المضارع فيكون في المضارع مزيد حث على تنفيذ هذا الأمر، وذلك من خلال استحضاره مشهد الحدث، نحو قوله تعالى: ?وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ? [البقرة:71 - 72].
فنجد حركة الأفعال في السياق على النحو الآتي ():
المستوى السطحي:
أقيموا، واتقوه ? تحشرون
أمر ? مضارع
المستوى العميق:
لنسلم، وأن نقيم ونتقيه ? نحشر (لأنه هو الذي إليه نحشر)
مضارع ? مضارع
أي: أن البنية العميقة للسياق وفق مطابقة الأزمنة في الأفعال تقتضي أن تكون على نحو:
(وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن نقيم الصلاة ونتقيه؛ لأنه هو الذي إليه نحشر).
وبذلك تطرد الأفعال على نسق واحد وهو زمن المضارع، إلا أن السياق في بنيته السطحية قد أبرز فعل الأمر (أقيموا، واتقوه) ليجسم معنى الفرض، والوجوب عند ذكر الصلاة والتقوى، ثم تحول إلى المضارع (تحشرون) ليفيد الاستحضار الدائم لمشهد الحشر المستقبلي بأهواله الجسام، وجعله متجدداً دائماً أمام عين المتلقي، لكي يقبل بهمة على تنفيذ الأوامر السابقة وهي الإسلام، وإقامة الصلاة، والتقوى ().
وقد يتحول عن أمر المضارع للدلالة على أن الأمر في معنى الخبر لا الطلب.
من ذلك قوله تعالى: ? قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى? [مريم: 75 - 76].
جاء السياق القرآني بفعل الأمر (فليمدد) ثم تحول عنه إلى المضارع (ويزيد) وذلك على النحو الآتي:
المستوى السطحي:
فليمدد ? ويزيد
أمر ? مضارع
المستوى العميق:
فليمدد ? وليزد
أمر ? أمر
ولو جاء السياق على نسق واحد لكان (فليمدد له الرحمن مدا … وليزد الله الذين اهتدوا هدى).
ويكون في الفعلين حينئذ معنى الدعاء (فليمدد وليزد)، ولكن السياق خالف بينهما للدلالة على أن فعل الطلب (فليمدد) يراد به الخبر لا الإنشاء.
يقول الزمخشري (): " (ويزيد) معطوف على موضع فليمدد؛ لأنه واقع موقع الخبر، تقديره: من كان في الضلالة مدّ أو يمد له الرحمن ويزيد".
وعندئذ يصبح السياق مطرداً تقديره من كان في الضلالة يمد له الرحمن مدا .. ويزيد الله الذين اهتدوا هدى.
¥