لقد تضمن هذا السياق تحولاً عن صيغة المضارع (أشهد الله) إلى صيغة الأمر (واشهدوا)، وذلك لإبراز البون الشاسع بين الإشهادين، فإشهاده الله إشهاد صحيح وثابت عن اعتقاد ويقين، وإشهاده إياهم ليس إشهاداً حقيقياً وإنما هو على سبيل السخرية والتهكم والتحدي لإرادتهم ()، لذا أتى به بصيغة الأمر (واشهدوا) ليشير إلى الهوة الكبيرة بين الطرفين: طرف آمر وحقه أن يطاع وهو (هود) عليه السلام، وطرف آخر مأمور حقير الشأن وهم قوم هود.
ففي الأمر (اشهدوا) دلالة واضحة على البراءة التامة بين الطرفين وعلى التحدي القوي من قبل نبي الله هود لقومه، فأبرز هذا التحول "مواقف الطرفين المتباعدين عن طريق ذكر صيغة المضارع التي توضح تشريف الطرف الأول وقوته وعظمته ثم التحول عنها إلى صيغة الأمر الدالة على حقارة شأن الطرف الثاني وبطلان موقفهم الذليل" ().
ويرى ابن المنيَّر أنه (ت 689هـ) (): "يحتمل أن يكون إشهاده لهم حقيقة والغرض إقامة الحجة عليهم، وإنما تحول إلى صيغة الأمر عن صيغة الخبر للتمييز بين خطابه لله تعالى وخطابه لهم، بأن يعبر عن خطاب الله تعالى بصيغة الخبر التي هي أجل وأوقر للمخاطب من صيغة الأمر".
وقد يتحول عن المضارع إلى الأمر للدلالة على أن الفعل المضارع يراد به الأمر، من ذلك قوله تعالى: ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ? [البقرة: 155].
أتى بالفعل المضارع المؤكد (ولنبلونكم) ثم تحول إلى فعل الأمر (وبشر الصابرين)، ولم يقل: (ولنبشرنَّ الصابرين) حتى يكون السياق مطرداً على نسق المضارع المؤكد على نحو: (ولنبلونكم … ولنبشرنَّ).
ويرى الألوسي (ت 1270هـ) أن قوله: (وبشر الصابرين) معطوف على (ولنبلونكم) من قبيل عطف المضمون على المضمون، "أي: الابتلاء حاصل لكم وكذا البشارة، لكن لمن صبر منكم" ().
وهذا العطف بين الإنشاء والخبر هو ما عرف عند الزمخشري بعطف القصة على القصة، فالزمخشري لا يمنع عطف الإنشاء على الخبر ما دام المعتمد بالعطف هو مضمون الجمل لا الألفاظ، وحينئذ لا تطلب المشاكلة بين الألفاظ، وإنما تطلب المناسبة بين المعاني" ().
"فهو عطف معنى الكلام ومفهومه ومضمونه الكلي المنبثق من جزئيات متعددة مختلفة الصور خبراً وإنشاء على مضمون كلي مثله" ().
والذي يظهر أن قوله تعالى: "ولنبلونكم" فيه معنى إنشائي، هو طلب الصبر منهم على البلاء؛ لأن الإخبار بذلك مآله طلب الصبر على ذلك البلاء، فيكون (بشر) معطوفاً على (لنبلونكم) لما فيه معنى الطلب، "ولكنه تحول عن أن يقال: فاصبروا وأبشروا إلى ما عليه النظم ليكون الخبر المؤكد في (لنبلونكم) مفجراً الرغبة والعزم على الصبر ومقابلة البلاء به" ().
ومنه قوله تعالى: ?قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً? [مريم: 46].
ففي هذه الآية تحول عن الفعل المضارع (أرجمنك) إلى الأمر (واهجرني) ولم يقل: (ولأهجرنك).
وقد علل الزمخشري وغيره أن فعل الأمر (اهجرني) "معطوف على محذوف يدل عليه لأرجمنك؛ أي: فاحذرني واهجرني؛ لأن لأرجمنك تهديد وتقريع" ().
فالفعل (لأرجمنك) فيه تهديد ووعيد بإبراهيم -عليه السلام- مضمونه إنشاء، يراد به تحذيره من سب آلهتهم المزعومة، وكأنه يقول: إذا لم تنته فاحذرني.
الصورة الخامسة: التحول عن الأمر إلى الماضي
منه قوله تعالى: ?وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ للطائفيين وَالْعَاكِفِينَ والركع السجود?
[البقرة: 125].
في هذا السياق القرآني تحولان: تحول عن الماضي (جعلنا) إلى الأمر (اتخذوا)، ثم إلى الماضي (عهدنا)، وذلك على النحو الآتي:
(جعلنا) ? (اتخذوا) ? (عهدنا)
ماض ? أمر ? ماض
ففعل الأمر (اتخذوا) مثل تحولاً عن الأصل السياقي وهو الفعل الماضي (جعلنا)، ثم أصبح يمثل أصلاً سياقياً جديداً للفعل الماضي (عهدنا) فمثل الفعل (عهدنا) تحولاً عن الأمر إلى الماضي.
¥