تلوَّمتك فيه لتوفي نذرك! فقال: يا نبيّ الله إنيّ هِبْتك، فلولا أوْمضت إليّ! فقال: إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن يومض)).
وما قاله الإمام ابن عطية عين التحقيق ويقينه، فالآية ـ بلا ريب ـ نزلت بشأن بدر، وقصة ابن أبي سرح كانت بعدها، وإذا تأملت حاله وجدته يدخل في عموم من خان فأمكن الله منه، فيكون ذكر حاله مثالاً لهذا لمعنى الآية.
أما لو كان القائل زعم أنها نزلت بسببه، فإنه يلزمه أن يثبت تأخُّر نزول هذه الآية عن وقعة بدر التي نزلت هذه السورة بشأنه، فإن لم يكن ثمَّ إثبات، فإن هذا الزعم ـ لو كان ـ خطأ بلا ريب.
ثم تأمل هذا التوسيع في التَّنْزيل على الواقع الذي نهجه الإمام في هذا المثال، فقد قال: ((كما يمكن أن تجلب أمثلة في عصرنا من ذلك))، وهذا يفيدنا في أن القرآن الكريم يخاطبنا ويشرح لنا أحوالنا، وأننا يمكن أن نحمل كثيرًا مما يقع بنا على آيات القرآن فتكون كأنها إنما نزلت ناطقة بما يحصل من أمرنا اليوم، ولعمر الله إن هذا لمن أعجاز القرآن الكريم الذي يبقى بتجدده لا يخلق على مدى الأزمان، فما حفت بمسلم نازلة ولا مصيبة فطلبها في القرآن إلا وجد فيه ما يغنيه فيها، لكننا مبتلون بقلة الفقه في كتاب الله، أسال الله لي ولكم الفقه في كتابه.
تأمل قوله تعالى: ((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم))، ثم تأمل حالك الشخصي، ثم حال أمتك من حولك؛ ألا تجد أن في حياتك التي تعيشها أمثلة كثيرة تدخل في عموم هذه الآية؟!
(3) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (التوبة: 12)
قال الإمام ابن عطية: ((وقال قتادة: المراد بهذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهما.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إن لم يتأول أنه ذكرهم على جهة المثال ضعيف لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير)).
أقول: أما المروي عن قتادة، فقد أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره عن شيخه معمر عن قتادة، قال: ((أبو سفيان بن حرب، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وسهيل بن عمرو، وهم الذين نكثوا عهد الله، وهموا بإخراج الرسول، وليس والله كما يتأول أهل الشبهات والبدع، والفري على الله تعالى وعلى كتابه)).
وفي المروي عن قتادة أمر لابد من التنبه له، وهو أن ما حمله عليه الإمام من التمثيل صحيح بلا ريب؛ لأن بعض من ذكرهم قتادة قد أسلموا وحسُن إسلامهم، ولم يكنوا من الناكثين لعهد الله كغيرهم من الكفار الذين ماتوا على الكفر، فأبو سفيان وسهيل بن عمرو ممن أسلم في عام الفتح وحسن إسلامه، فالخطاب متعلق بهم حال كفرهم فقط، فلما انتقلوا إلى الإيمان خرجوا من هذا الخطاب.
وأما ملحظ الإمام الثاني ـ وهو معتمد على تاريخ الواقعة وتاريخ النُّزول ـ فيشير إلى أن قتادة يذهب إلى التنبيه على أن الآية تشمل هؤلاء حال كفرهم يوم بدر، ولا يلزم منه أن من آمن منهم ومات على الإيمان باقٍ في شمول الآية له، ولو كان يذهب إلى أنهم داخلون في معنى الآية حال نزولها فهذا خطأ بين ظاهر، ولا يُتصوَّر بحافظ الأمة قتادة أن يذهب هذا المذهب؛ لذا يحسن بنا أن نحمل تفسيره على التمثيل لبعض أئمة الكفر في وقت من أوقات كفرهم، مع أن منهم من آمن بالله.
(4) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
قال الإمام ابن عطية: ((وذكر الناس من معاني الخفة والثقل أشياء لا وجه لتخصيص بعضها دون بعض، بل هي وجوه متفقة، فقيل: الخفيف: الغني، والثقيل: الفقير، قاله مجاهد.
وقيل: الخفيف: الشاب، والثقيل: الشيخ، قاله الحسن وجماعة.
وقيل: الخفيف: النشيط، والثقيل: الكاسل، قاله ابن عباس وقتادة.
وقيل: المشغول ومن لا شغل له، قاله الحكم بن عيينة وزيد بن علي.
وقيل: الذي له ضيعة هو الثقيل، ومن لا ضيعة له هو الخفيف، قاله ابن زيد.
وقيل: الشجاع هو الخفيف، والجبان هو الثقيل، حكاه النقاش.
وقيل: الراجل هو الثقيل، والفارس هو الخفيف، قاله الأوزاعي.
¥