قال القاضي أبو محمد: وهذان الوجهان الآخران ينعكسان، وقد قيل ذلك، ولكنه بحسب وطأتهم على العدو، فالشجاع هو الثقيل، وكذلك الفارس.
والجبان هو الخفيف، وكذلك الراجل.
وكذلك ينعكس الفقير والغني، فيكون الغني هو الثقيل بمعنى صاحب الشغل، ومعنى هذا أن الناس أمروا جملة.
وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة ... )).
أقول: هانحن أما أقوال متعددة تصل إلى سبعة، ومع هذا فإن الإمام ببصره بعبارات السلف، وتحريره في مراداتهم يختصر علينا المقام، ويهب إلى أن هذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة، وبهذا التخريج لا تجد أي حرج من كثرة هذه الأقوال، ولا تحتاج إلى أن تبحث عن المراد منها دون غيره، بل كلها داخلة في المراد.
وكون العموم هو المراد في الآية هو ما ذهب إليه الطبري ونبَّه عليه، ثم تبعه ابن عطية ـ رحم الله الجميع ـ، قال الطبري: ((وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنَّفر لجهاد أعدائه في سبيله، خفافًا وثقالا. وقد يدخل في "الخفاف" كل من كان سهلا عليه النفر لقوة بدنه على ذلك، وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا يُسْرٍ بمالٍ وفراغ من الاشتغال، (1) وقادرًا على الظهر والركاب.
ويدخل في "الثقال"، كل من كان بخلاف ذلك، من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه، ومن مُعسِرٍ من المال، ومشتغل بضيعة ومعاش، ومن كان لا ظهرَ له ولا ركاب، والشيخ وذو السِّن والعِيَال.
فإذ كان قد يدخل في "الخفاف" و"الثقال" من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا، ولم يكن الله جل ثناؤه خصَّ من ذلك صنفًا دون صنف في الكتاب، ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نَصَب على خصوصه دليلا وجب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافًا وثقالا مع رسوله صلى الله عليه وسلم، على كل حال من أحوال الخفّة والثقل)).
وهذا التعدد في الأقوال في التمثيل للفظ العام لا يضيرك حتى لو بلغ أكثر من عشرة ما دام يصدق عليه مدلول اللفظ العام، والله أعلم.
5 ـ قوله تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) (هود: 114).
قال الإمام ابن عطية: ((وقوله (إن الحسنات يذهبن السيئات)، ذهب جمهور المتأولين من صحابة وتابعين إلى أن (الحسنات) يراد بها الصلوات الخمس - وإلى هذه الآية ذهب عثمان - رضي الله عنه - عند وضوئه على المقاعد (1) وهو تأويل مالك.
وقال مجاهد: (الحسنات): قول الرجل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات، ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال، والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات خاص في السيئات بقوله عليه السلام: (ما اجتنبت الكبائر) ... )).في هذا الكلام عدد من التنبيهات:
التنبيه الأول: ورد تفسير الحسنات بالصلوات الخمس عن جمع من السلف كما أشار إلى ذلك الإمام ابن عطية، ويبدو أن السرَّ في اختيارهم هذا المثال أن السِّباق قد مضى بقوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل)، فكان تنبيههم على أن الحسنات الصلوات تنبيه له مقصده، وقد ذكر الإمام ابن عطية علَّة أخرى في ذكر هذا القول، واستشهد له بما يعضده،فقال: ((ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال، والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات خاص في السيئات بقوله عليه السلام: (ما اجتنبت الكبائر) ... )).
التنبيه الثاني: ذكر في سبب نزول هذه الآية الخبر المشهور، وقد سلك في روايته له مسلك ذكر ما يتضمنه من معنى دون ذكر النص بالتحديد، والخبر له روايات متعددة كما أشار الإمام، قال: ((وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار، قيل: هو أبو اليسر بن عمرو، وقيل: اسمه عباد، خلا بامرأة فقبلها وتلذّذ بها فيما دون الجماع، ثم جاء إلى عمر فشكا إليه، فقال: قد ستر الله عليك فاستر على نفسك، فقلق الرجل فجاء أبا بكر فشكا إليه، فقال له مثل مقالة عمر، فقلق الرجل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى معه، ثم أخبره وقال: اقض فيَّ ما شئت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلها زوجة غاز في سبيل الله، قال
¥