وقال في موضع آخر من نفس المرجع: (وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به) وفي الحديث الآخر: (إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوا عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة , وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرا) وفي الحديث الآخر: (في الحسنة إلى سبعمائة ضعف) وفي الآخر: (في السيئة إنما تركها من جراي) فقال الإمام المازري رحمه الله: مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبه , ووطن نفسه عليها , أثم في اعتقاده وعزمه , ويحمل ما وقع في هذه الأحاديث وأمثالها على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على المعصية , وإنما مر ذلك بفكره من غير استقرار , ويسمى هذا هما ويفرق بين الهم والعزم.
هذا مذهب القاضي أبي بكر , وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين وأخذوا بظاهر الحديث. قال القاضي عياض - رحمه الله -: عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب , لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب سيئة وليست السيئة التي هم بها لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة. لكن نفس الإصرار والعزم معصية فتكتب معصية فإذا عملها كتبت معصية ثانية , فإن تركها خشية لله تعالى كتبت حسنة كما في الحديث: " إنما تركها من جراي " فصار تركه لها لخوف الله تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة. فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها , ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم.
وذكر بعض المتكلمين خلافا فيما إذا تركها لغير خوف الله تعالى , بل لخوف الناس. هل تكتب حسنة؟ قال: لا لأنه إنما حمله على تركها الحياء. وهذا ضعيف لا وجه له. هذا آخر كلام القاضي وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه , وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر ومن ذلك قوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم} الآية وقوله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} والآيات في هذا كثيرة. وقد تظاهرت نصوص الشرع وإجماع العلماء على تحريم الحسد واحتقار المسلمين وإرادة المكروه بهم وغير ذلك من أعمال القلوب وعزمها والله أعلم.)
وقال ابن حجر في الفتح:
(قوله: (إياكم والظن)
قال الخطابي وغيره ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تناط به الأحكام غالبا , بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به , وكذا ما يقع في القلب بغير دليل , وذلك أن أوائل الظنون إنما هي خواطر لا يمكن دفعها , وما لا يقدر عليه لا يكلف به , ويؤيده حديث " تجاوز الله للأمة عما حدثت به أنفسها " وقد تقدم شرحه.
وقال القرطبي: المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم رجلا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها , ولذلك عطف عليه قوله " ولا تجسسوا " وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع , فنهى عن ذلك , وهذا الحديث يوافق قوله تعالى (اجتنبوا كثيرا من الظن , إن بعض الظن إثم , ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا) فدل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن , فإن قال الظان أبحث لأتحقق , قيل له (ولا تجسسوا) فإن قال تحققت من غير تجسس قيل له (ولا يغتب بعضكم بعضا)
وقال عياض: استدل بالحديث قوم على منع العمل في الأحكام بالاجتهاد والرأي , وحمله المحققون على ظن مجرد عن الدليل ليس مبنيا على أصل ولا تحقيق نظر.
وقال النووي: ليس المراد في الحديث بالظن ما يتعلق بالاجتهاد الذي يتعلق بالأحكام أصلا , بل الاستدلال به لذلك ضعيف أو باطل. وتعقب بأن ضعفه ظاهر وأما بطلانه فلا , فإن اللفظ صالح لذلك , ولا سيما إن حمل على ما ذكره القاضي عياض وقد قربه في " المفهم " وقال: الظن الشرعي الذي هو تغليب أحد الجانبين أو هو بمعنى اليقين ليس مرادا من الحديث ولا من الآية. فلا يلتفت لمن استدل بذلك على إنكار الظن الشرعي.
.....
وأما وصف الظن بكونه أكذب الحديث , مع أن تعمد الكذب الذي لا يستند إلى ظن أصلا أشد من الأمر الذي يستند إلى الظن , فللإشارة إلى أن الظن المنهي عنه هو الذي لا يستند إلى شيء يجوز الاعتماد عليه فيعتمد عليه ويجعل أصلا ويجزم به , فيكون الجازم به كاذبا ; وإنما صار أشد من الكاذب ; لأن الكذب في أصله مستقبح مستغنى عن ذمه , بخلاف هذا فإن صاحبه بزعمه مستند إلى شيء فوصف بكونه أشد الكذب مبالغة في ذمه والتنفير منه , وإشارة إلى أن الاغترار به أكثر من الكذب المحض لخفائه غالبا ووضوح الكذب المحض.
قوله: (فإن الظن أكذب الحديث)
قد استشكل تسمية الظن حديثا , وأجيب بأن المراد عدم مطابقة الواقع سواء كان قولا أو فعلا , ويحتمل أن يكون المراد ما ينشأ عن الظن فوصف الظن به مجازا.) انتهى كلام ابن حجر باختصار.
ولعل في هذه النقول ما يزيل الإشكال.
¥