[الساعي إلى سبيل الرشاد]
ـ[فتحي بن عبد الله الموصلي]ــــــــ[01 Jun 2004, 10:24 ص]ـ
[الساعي إلى سبيل الرشاد]
تأملات قرآنية من سورة عبس
بقلم فتحي بن عبد الله الموصلي
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ((عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى)) [عبس:1 - 10].
أجمع المفسرون على أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات: أنه جاء رجل من المؤمنين أعمى يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلم منه.
وجاءه رجل من الأغنياء، وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية الخلق فمال صلى الله عليه وسلم، وأصغى إلى الغني، وصد عن الأعمى الفقير، رجاءً لهداية ذلك الغني، وطمعاً في تزكيته؛ فعاتبه الله تعالى بهذا العتاب اللطيف.
وروى الترمذي (3/ 126 – صحيح) عن عائشة – رضي الله عنها – قالت:
" أنزل ((عَبَسَ وَتَوَلَّى)) في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول:
" أترى بما أقول بأسا؟ " فيقول: لا، ففي هذا أنزل.
وقد دل المأثور في سبب النزول على: أن الساعي هاهنا كان قاصداً سبيل الرشاد الذي هو ضد الغي؛ وهو: اسم جامع لكل ما يرشد إلى المصالح الدينية والدنيوية، وهو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة.
· ((عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى)):
1 - عبس؛ أي: في وجهة، وتولى في بدنه؛ لأجل مجيء الأعمى له.
وأن جاءه الأعمى في موضع نصب؛ لأنه مفعول لأجله؛ المعنى: لأن جاءه الأعمى، وهذا بيان لعلة التولي؛ كما ذكر أهل التفسير (1).
قلت: وهذه العلة ليست لذات المجيء، وإنما لحال النبي صلى الله عليه وسلم في الانشغال بهداية المعرض عند مجيء الأعمى، والله أعلم.
2 - قال الصاوي (4/ 291): إنما أتى بضمائر الغيبة ((عَبَسَ وَتَوَلَّى)) تلطفاً به صلى الله عليه وسلم وإجلالاً له؛ لما في المشافهة بتاء الخطاب ما لا يخفى من الشدة والصعوبة.
3 - والتعرض لصفة عماه: إما لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه صلى الله عليه وسلم، وتشاغله بالقوم، وإما لزيادة الإنكار؛ كأنه قيل: تولى لكونه أعمى، ... وكان يجب أن يزيده لعماه، تعطفاً وترؤفاً وتقريباً وترحيباً (2).
4 - والآية ذكرته بلقب يكرهه الناس، مع أن الله تعالى قال: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ))، وهذا التعارض الظاهر يُدفع من وجوه:
- إن هذا الوصف جاء من باب التعريف في غرض سليم دون تنقص.
- للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وللإيذان بالرفق به، ومراعاة حاله (3).
- وذكر بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم، وكأنه يقول لهم: ((فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)): فهذا كفيف البصر، ولكنه وقاد البصيرة، أبصر الحق وآمن به، وجاء مع عماه طالباً للمزيد (4).
5 - والعبوسة أمر لا يتفق في الظاهر مع قوله تعالى: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ))، وقوله: ((وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)).
والذي يظهر – والله تعالى أعلم -، أنه لا يتأتى معه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بما يسيء إلى هذا الصحابي في نفسه بشيء يسمعه، كل ما كان منه صلى الله عليه وسلم إنما هو تقطيب الجبين، وهي حركة مرئية لا مسموعة، والحال: أن هذا أعمى لا يرى تلك الحركة، فكأنه لم يلق إساءة منه صلى الله عليه وسلم؛ فعوتب من باب التسامي بأخلاقه صلى الله عليه وسلم إلى ما لا نهاية له، إلى حد اللحظ بالعين، والتقطيب بالجبين، ولو لمن لا يراه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: " ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين " وذلك في صلح الحديبية (5).
· ((وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى)):
¥