ثم يسألون الفرقَ بين ذلك، فلن يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله.
وكذلك يسألون فيما اعتلوا به في ذلك: أن من شأن الأبصار إدراك الألوان، كما أن من شأن الأسماع إدراك الأصوات، ومن شأن المتنسِّم درَك الأعراف، فمن الوجه الذي فسد أن يُقضى للسمع بغير درك الأصوات، فسد أن يُقضى للأبصار لغير درك الألوان.
فيقال لهم: ألستم لم تعلموا فيما شاهدتم وعاينتم، موصوفًا بالتدبير والفعل إلا ذا لونٍ، وقد علمتموه موصوفًا بالتدبير لا ذا لونٍ؟
فإن قالوا:"نعم"= لا يجدون من الإقرار بذلك بدًّا، إلا أن يكذبوا فيزعموا أنهم قد رأوا وعاينوا موصوفًا بالتدبير والفعل غير ذي لون، فيكلفون بيان ذلك، ولا سبيل إليه.
فيقال لهم: فإذ كان ذلك كذلك، فما أنكرتم أن تكون الأبصار فيما شاهدتم وعاينتم لم تجدوها تدرك إلا الألوان، كما لم تجدوا أنفسكم تعلم موصوفًا بالتدبير إلا ذا لون، وقد وجدتموها علمته موصوفًا بالتدبير غير ذي لون. ثم يسألون الفرق بين ذلك، فلن يقولوا في أحدهما شيئًا إلا ألزموا في الآخر مثله.
ولأهل هذه المقالة مسائل فيها تلبيس، كرهنا ذكرها وإطالة الكتاب بها وبالجواب عنها، إذ لم يكن قصدنا في كتابنا هذا قصدَ الكشف عن تمويهاتهم، بل قصدنا فيه البيان عن تأويل آي الفرقان. ولكنا ذكرنا القدرَ الذي ذكرنا، ليعلم الناظرُ في كتابنا هذا أنهم لا يرجعون من قولهم إلا إلى ما لبَّس عليهم الشيطان، مما يسهل على أهل الحق البيانُ عن فساده، وأنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلمات يخبطون، وفي العمياء يتردّدون، نعوذ بالله من الحيرة والضلالة).
أبا (لُمَيْعة):
بأي قانون من قوانين الفهم، وأساليب اللغة، فهمت من هذا النص أن الطبري يقول بقولك: إنه لا مماس ولا مباين، لا داخل العالم، ولا خارجه؟!!
أما رأيته كل مرة يقول لمخالفيه، جماعة جهم: عندكم، عندهم .. ؛ فهل سمعته مرة واحدة يقول ـ مثلا ـ: عندنا وعندكم؟!
أما فهمت أساليب الجدل، وطرق الإلزام للخصم بأن يورد عليه ما يوجب فصلا بينه وبين ما تضمن نصرته [انظر: الكافية في الجدل، للجويني (70)، وينظر ص (218) منه]؟!
ولا يلزم من نقضه على خصمه، أن يلتزم ما ينقض به؛ بل متى نقض الكلام (بحكم ثابت على مذهب المستدل خاصة، فهو نقض صحيح؛ لأنه يقول للمستدل: لو كانت علتك صحيحة، لطردتها في مواضع وجودها؛ فإذا لم تلتزم أنت موجبها في صورة النقض؛ فكيف ألتزم أنا موجبها في الفرع؛ وهذا ظاهر) [تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل (2/ 380)، وينظر المسودة لآل تيمية (385)].
وهذا كله في واقع الأمر: صنعة جدلية، وليس بحثا برهانيا. [انظر: المدخل إلى دراسة علم الكلام، د. حسن الشافعي (191 - 192) فهو مهم].
أبا (لُمَيْعة):
أيرضيك أن تكون كل مناقضة يوردها الطبري مع خصمه، رأيا له، وأن نلزمه بما ألزم به خصمه؟!
حسنا يا عبد الله؛ لعلنا نحتاج ـ هنا ـ إلى أن نذكرك بما نقلناه عنه آنفا:
(وإن كنتم لم تعقلوا عالما إلا له علم، وقادرا إلا له قدرة، فما تنكرون أن يكون جائيا لا مجيء له، وهابطا نازلا، لا هبوط له، ولا نزول له، ويكون معنى ذلك: وجوده هناك، مع زعمكم أنه لا يخلو منه مكان؟!
فإن قال لنا منهم قائل: فما أنت قائل في معنى ذلك؟ ... ).
فانظر كيف فرق بين مقام المناقضة على الخصم، وبين مقام تقرير اعتقاده، فأورد على نفسه السؤال آخرا: فما أنت قائل ...
فهل تقبل، أبا (لُمَيْعة)، برد الطبري على من تأول المجيء والإتيان، كما رد على من تأول سائر الصفات، وتقر بأن معنى ذلك: (وجوده هناك)؟!
ثم، هل تأخذ من مناقضة الطبري للمعتزلة أنه يثبت: عالما، ليس له علم، كما أن المعتزلة يقولون بذلك؟!!
آه، نعم، لقد تذكرت يا صاحبي، ويبدو أن الحنين قد عاودني إلى صحبتك مرة أخرى، أو لعلك قدر ملازم لي، لا أدري!! لكني ما كنت أحسبك بكل هذه الغفلة حتى تذكرني بالموطن الثاني الذي وعدتك به؛ هذا إذا كنت قد اطلعت عليه حقا، فهلم إليه، وتدبر ما فيه، لعله ينفعك:
¥