¨ ثالثا: وذهب والمالكية رحمهم الله، كما نقل ذلك القرطبي رحمه الله، صاحب المفهم، إلى عدم الإحتجاج بالقراءة الغير متواترة، إذا لم ينسبها ناقلها للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا إجماع عندهم، وأما الخلاف بينهم، فوقع في القراءة التي نسبها قائلها للرسول صلى الله عليه وسلم، فمنهم، من احتج بها كخبر آحاد، ومنهم من ردها، كابن العربي رحمه الله، الذي أطلق القول بأنها لا تفيد علما ولا عملا، والصحيح عندهم، جواز الإحتجاج بها على أنها خبر آحاد.
¨ رابعا: وذهب الحنابلة رحمهم الله، إلى الإحتجاج بها إذا صحت نسبتها للرسول صلى الله عليه وسلم، كما نقل ذلك ابن قدامة رحمه الله.
¨ خامسا: وأما الشافعي رحمه الله، فقد حكى عنه النووي رحمه الله في شرح مسلم، والآمدي، عدم الإحتجاج بها، ولكننا، على الجانب الآخر، نجد الشافعي، في مختصر البويطي، رحمه الله، يوافق المالكية في الإحتجاج بها، إن صح السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدل الشافعية رحمهم الله، على مذهبهم بعدة أدلة، من أبرزها:
§ أن عائشة رضي الله عنها، حددت الرضاع المحرم، بخمس رضعات، كما جاء عند مسلم، وأبو داود، والنسائي: (كان فيما نزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن)، وهي رضي الله عنها، تعني بهذا تأخر نسخ هذا الحكم، حتى توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهن فيما يقرأ، لعدم العلم بنسخهن، ويظهر من الرواية أن عائشة رضي الله عنها، نسبت هذا الحكم للقرآن، والقرآن لا يسمع إلا من في الرسول صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على إتصال السند، وفي هذا رد على أن من أنكر هذا الحكم، بحجة أن القرآن لا يثبت إلا متواترا، وهذا صحيح، ولكنه لا يمنع من الإحتجاج بهذه القراءة، بعد أن تبين إتصال سندها، مع التسليم بأنها ليست قرآنا، وهذا مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وإحدى الروايات عن عائشة رضي الله عنها، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وعطاء، وطاووس، والشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبه، وابن حزم، وأكثر أهل الحديث.
§ حديث: (لأقضين بينكما بكتاب الله)، حيث قضى صلى الله عليه وسلم، في واقعة الأجير الذي زنى بإمرأة مستأجره، بجلده مائة وتغريبه سنة، ورجمها، إن اعترفت، والرجم، كما هو معلوم، منسوخ التلاوة، باق الحكم، ومع ذلك نسبه الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن.
¨ سادسا: وهو رأي الماوردي رحمه الله، حيث قال بأن القراءة الشاذة، قد تأتي لبيان حكم، كقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (فاقطعوا أيمانهما)، فهي مبينة لقوله تعالى: (فاقطعوا أيديهما)، وهذه يحتج بها، وقد تأتي لإبتداء حكم، كقراءة: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، وهذه لا يحتج بها، ويعلق الشيخ محمد، حفظه الله على هذا الرأي بقوله بأنه رأي ضعيف.
وقد تعقب الشافعي رحمه الله، لأنه لم يقل بوجوب التتابع في كفارة اليمين، مع أن ابن مسعود رضي الله عنه نسبها للقرآن، في قراءة: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، ولم يقل بأن الصلاة الوسطى، هي صلاة العصر، مع أن عائشة رضي الله عنها، نسبت هذا الحكم للقرآن، في قراءة: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر)، كما عند مسلم رحمه الله، وعلى الجانب الآخر، أخذ، بقراءة: (لقبل عدتهن)، في الإستدلال على أن القرء هو الطهر، وأخذ بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (فاقطعوا أيمانهما)، وقراءة: (إن كان له أخ أو أخت من أم)، في بيان معنى الكلالة، فما الفرق، وكلها قراءات آحاد، نسبها قائلوها للقرآن الكريم، فلماذا أخذ الشافعي رحمه الله، ببعضها، وأعرض عن بعض؟.
وقد دافع الهرافي رحمه الله، عن عدم إحتجاج الشافعي رحمه الله، بقراءة: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، بإحتمال أن يكون ابن مسعود رضي الله عنه قد تراءى له هذا الحكم أثناء القراءة، فتكون هذه القراءة، هي مذهبه، ورد الأحناف رحمهم الله، على هذا الإعتراض، وهم الذين أخذوا بهذه القراءة لإشتهارها، كما سبق، وقالوا: كيف يخلط ابن مسعود رضي الله عنه بين ما هو قرآن، وما هو ليس بقرآن؟، فرد عليهم الشافعية رحمهم الله، بقولهم: أنتم (أي الأحناف)، تقولون أنه يحتمل أن تكون هذه القراءة، قرآنا نسخ واندرست حروفه، وبقي حكمه، فكيف يخلط ابن مسعود بين ما هو منسوخ، وما هو غير منسوخ؟، فهو نفس إعتراضكم علينا، لأنه، حسب كلامكم، يكون، أيضا، قد خلط بين ما هو قرآن، وما هو غير قرآن، فالمنسوخ ليس قرآنا بالإجماع، والله أعلم.
وخلاصة هذه المسألة، كما قررها الماوردي رحمه الله:
أن قراءة الآحاد، يحتج بها، كخبر آحاد، في حالتين:
أولا: إن نسبها قائلها للقرآن.
ثانيا: إن نسبها قائلها للرسول صلى الله عليه وسلم
وأما إذا لم ينسبها قائلها للقرآن، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنها تعامل معاملة تفسير الصحابي، وتفسيره موقوف عليه، إلا فيما كان لبيان سبب نزول فإنه يأخذ حكم الرفع، كما هو مقرر في علم المصطلح.
¥