تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

2 ـ عند قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) قال: (أجمع أهل السنة على أن الله تعالى يرى يوم القيامة، يراه المؤمنون وقاله ابن وهب عن مالك بن أنس، والوجه أن يبين جواز ذلك عقلاً ثم يستند إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز، واختصار تبيين ذلك يعتبر بعلمنا بالله عز وجل، فمن حيث جاز أن نعلمه لا في مكان ولا متحيز ولا مقابل ولم يتعلق علمنا بأكثر من الوجود، جاز أن نراه غير مقابل ولا محاذى ولا مكيفاً ولا محدوداً، وكان الإمام أبو عبد الله النحوي يقول: مسألة العلم حلقت لحى المعتزلة ثم ورد الشرع بذلك وهو قوله عز وجل: {وجوه يؤمئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22] وتعدية النظر يأتي إنما هو في كلام العرب لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار على ما ذهبت إليه المعتزلة، وذكر هذا المذهب لمالك فقال: فأين هم عن قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطفّفين: 15].

قال القاضي أبو محمد: فقال بدليل الخطاب ذكره النقاش ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما صح عنه وتواتر وكثر نقله: إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر ونحوه من الأحاديث على اختلاف ترتيب ألفاظها، وذهبت المعتزلة إلى المنع من جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة واستحال ذلك بآراء مجردة، وتمسكوا بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} وانفصل أهل السنة عن تمسكهم بأن الآية مخصوصة في الدنيا، ورؤية الآخرة ثابتة بأخبارها، وانفصال آخر، وهو أن يفرق بين معنى الإدراك ومعنى الرؤية، ونقول إنه عز وجل تراه الأبصار ولا تدركه، وذلك الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى أعماقه وحوزه من جميع جهاته، وذلك كله محال في أوصاف الله عز وجل، والرؤية لا تفتقر إلى أن يحيط الرائي بالمرئي ويبلغ غايته، وعلى هذا التأويل يترتب العكس في قوله {وهو يدرك الأبصار} ويحسن معناه، ونحو هذا روي عن ابن عباس وقتادة وعطية العوفي، فرقوا بين الرؤية والإدراك، وأما الطبري رحمه الله ففرق بين الرؤية والإدراك واحتج بقول بني إسرائيل إنَّا لمدركون فقال إنهم رأوهم ولم يدركوهم.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا كله خطأ لأن هذا الإدراك ليس بإدراك البصر بل هو مستعار منه أو بإشتراك، وقال بعضهم إن المؤمنين يرون الله تعالى بحاسة سادسة تخلق يوم القيامة، وتبقى هذه الآية في منع الإدراك بالأبصار عامة سليمة، قال: وقال بعضهم: إن هذه الآية مخصوصة في الكافرين، أي إنه لا تدركه أبصارهم لأنهم محجوبون عنه.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذه الأقوال كلها ضعيفة ودعاو لا تستند إلى قرآن ولا حديث).

الثالث: يترتب من هذا قضية مهمة، وهي أنه إذا وُجِد لمسألة ما أكثر من دليل، وتوقف عالم من العلماء في صحة أحد هذه الادلة؛ إما من جهة الثبوت ـ إن كان في الاخبار ـ في الإسناد، وإما من جهة الدلالة، فإن هذا لا يعني أنه ينكر المسألة في أصلها، وإنما هو لا يرى دلالة هذا الدليل على هذه المسألة، وهذه قضية مهمة ودقيقة قد يغفل عنها بعض القراء، فيحسن جمع موارد كلام العالم في المسألة ليتبن مراده الذي يذهب إليه.

والحال هنا أن أبن عطية لو ذهب إلى عدم دلالة آية (وزيادة) على الرؤية لأحد العوارض التي تعرض له ولغيره من العلماء، فإنه لا يُعدُّ منكرًا للرؤية، وإنما هو يعترض على دلالة هذه الآية عليها لسبب عنده.

هذا، مع أن ابن عطية يذهب بالآية إلى تفسيرها بالرؤية، وإنما حكيت لك الامر افتراضًا لتتبين المسألة، وفي ذلك أمثلة غير هذا في تطبيقات العلماء العلمية.

الرابع: أن الأمر في هذه المسألة يتعلق بنسبة عالم إلى معتقد لا يظهر أنه يعتقده، فمن قال بأنه معتزلي أو يميل إلى الاعتزال، فعليه الدليل، وذلك أصل علمي لا يحيد عنه أحد، وإلا فالدعاوى قد تظهر على كثير من العلماء، وعند التحقيق لا ترى منها ما يثبت.

الخامس: كلامنا ـ نحن البشر ـ يُحتجُّ له ولا يُحتجُّ به، وما ذكرته عن الشيخ المغراوي حفظه الله من قوله: (أما أبو محمد بن عطية فيمزج بين الأشعرية والاعتزال، ويميل أحيانا إلى الاعتزال ... ) يندرج تحت الفقرة الرابعة التي أوردتها لك، فهل ذكر المغراوي مثالاً على ميله للاعتزال؟!

السادس: فائدة زائدة:

أحب ان تعلم أن إتيان بعض المسائل العقدية في كتب التفسير من زاوية واحدة، أو من خلال فهم لجزء من عقيدة المؤلف أو كذا عقيدة الباحث = يورث القصور في الحصول على النتائج، والعدل أن يكون مقام النقد مبينًا عما للمفسر وما عليه، حتى لو كنت تخالفه في المعتقد؛ لأن إظهار جانب معين والتركيز عليه سيورث زُهد طلاب العلم بذلك المفسر وكتابه.

وانظر ما يحصل لك لو أردت أن تقرأ الكشاف، مع أنه من أكثر كتب التفسير نقدًا، فقل عالم إلا انتقده، وكره ما فيه من اعتزاليات، لكن لم يمنعهم هذا من الاستفادة من الجوانب الاخرى التي تميز بها، بل كان سببًا في بروز بحوث كثيرة للعلماء في مجال بلاغة القرآن الكريم، ولا يتغافل عن هذا إلا من لا يحب الإنصاف.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير