الحمد لله، وبعد ..
_ خامساً: قال المؤلِّف وفقه الله صـ (18):
في فصل الإعجاز.
فقد ذكر أربعة من أنواع الإعجاز، فعدَّ؛ اللُّغوي، والإخباري، والتشريعي، والعلمي، وقد قال في طليعة الفصل وفقه الله: " يعسُر أن تُحدَّ وجوه الإعجاز في القرآن الكريم؛ فكل شيء منه لا نظير له؛ فهو باهر في ألفاظه وأسلوبه ... إلخ "أهـ.
قال مُقَيِّدُه عفا الله عنه:
أولاً لا بُدَّ من تعريف المعجزة؛ فنقول:
المعجزة: هي أمرٌ خارقٌ للعادةِ، مقرونٌ بالتحدِّي، سالمٌ من المعارضة، يُظهره الله على يد رسله (1)
وجلُّ من تكلم في مبحث الإعجاز كان يغفل في تعداد أنواع الإعجاز عن هذا التعريف.
ولو دقِّق في التعريف ومحترزاته؛ لكان الأجدر أن ينحصر في وجه واحدٍ لا غير، ذلكم هو الأعجاز البياني، وأن تكون باقي الأنواع الأخرى من باب الدلائل المبرهنة على أنه من عند الله تعالى.
وغير أن بعض العلماء المتأخرين ذهب إلى أنه لا يُشترط في تعريف المعجزة (قيد التحدِّي) (2)
وللجواب عن هذا الذين ذهبوا إليه ليس هذا محله.
وأما راجح المسألة عند الراقم فيما يظهر والعلم عند الله؛ فهو الإعجاز البياني.
" فلقد اختلفت أقوال العلماء في أوجه الإعجاز القرآني، وتعددت آراؤهم، فمنهم من يذكر وجهاً واحداً ويقصر إعجاز القرآن عليه، ومنهم من يعدد عدة أوجه، وكل ذلك كما ذكرنا آنفاً يعود لكل عالم وكيف يُوظِّف ما فتح الله عليه في خدمة كتاب ربه، حتى أوصلها بعضهم –كما ذكر السيوطي في مُعْتَركِهِ - إلى ثمانين وجهاً.
والصواب من القول، أنَّ هذا ليس حصراً لوجوه الإعجاز، ولكن هو غاية ما هُدِِيَ إليه العلماءُ من القول، ومما أفاء الله عليهم من العلم، ومصداق ذلك قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24]
فإذا عُلِمَ ذلك، فالذي يتوجَّهُ الآن أنْ يقال، أنَّ وجه الإعجاز؛ إنما هو " الإعجاز البياني " وحَسْبُ هذا الوجه أنَّ كافة العلماء قد اتفقوا عليه، ولا يُعلم له معارضٌ أو من نَفَى إعجازه، بخلاف باقي الأوجه؛ فقد تناولتها الأراء بالنَّقدِ والاعتراض.
وهذا ابن الجزري رحمه الله يقول في إثبات هذا الوجه الإعجازي: " أنه مع ما اشتمل عليه من البلاغة والفصاحة والذوق والملاحة إلى غير ذلك، أن كل حرف من حروفه، وكل كلمة من كلماته لا يصلح أن يكون في مكانها وموضعها الذي وقعت فيه غيرها، وهذا شيء لا يدركه إلا من وهبه الله ذهناً ثاقباً، وقدماً في الإدراك راسخاً، وممارسة لعلوم البلاغة، وتحقيقاً لأسرار كلام العرب، وتدقيقاً من ضروب فنون الأدب، ولا يوصل إلى ذلك إلا بإنعام النظر في المعاني والبيان، ولا يقف على كُنْهِهِ من تطبع القول بالتفنن فإنه عصا العميان، وهذا مما أهمله أهل التفسير، لأن الوقوف على غايته عسير ". (3)
وقال حازم القرطاجي رحمه الله في مناهج البلغاء: " وجه الإعجاز في القرآن، من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها، في جميعه استمراراً لا يوجد له فَترة،ولا يقدرُ عليه أحدق من البشر. وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع إنحائها في العالي منه إلا الشيء اليسير المعدود، ثم تعترض الفترات الإنسانية؛ فينقطع طيب الكلام ورونقه؛ فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه، بل توجد في تفاريق وأجزاء منه " (4)
وقال القاضي عِياض رحمه الله قولة فائقة الحُسْن والبيان، في كلام ربِّنا المنَّان، إذ يقول: "فلم يزل r يقرعهم أشد التَّقريع، ويوبِّخهم غاية التوبيخ، ويسفِّه أحلامهم، ويحطَّ أعلامهم، ويشتِّت نظامهم، ويذم آلهتهم وإياهم، ويستبيح أرضَهم وديارَهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، مُحْجِمون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتَّشغِيب بالتكذيب، والإغراء بالافتراء، وقولهم: إنْ هذا إلا سِحْرٌ يُؤثر، وسِحْرٌ مُستمر، وإفْكٌ افتراه، وأساطير الأولين، والمباهتة والرضى بالدَّنِيئة كقولهم: قلوبنا غُلْف، وفي أكنّّةٍ مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب، ولا تسمعوا لهذا القرآن والْغَوا فيه لعلكم تغلبون، والادعاء مع العجز بقولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا، وقد قال لهم الله "ولن تفعلوا"
¥