فما فعلوا ولا قدروا، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كُشف عُوارُه لجميعهم، وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم، وإلا فَلَمْ يَخفَ على أهل الميْزِ منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم، ولا جنس بلاغتهم، بل ولّوا عنه مدبرين، وأتوا مذعنين من بين مهتد وبين مفتون، ولهذا لما سمع الوليد بن المغيرة من النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90]
قال: والله إن له لحلاوة، وإنَّ عليه لطَلاوة، وإنَّ أسفله لمغدق، وإنَّ أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر.
وذكر أبو عبيد أنَّ أعرابياً سمع رجلا يقرأ: {فاصْدَعْ بِمَا تًؤْمَرْ} [الحجر:94] فسجد وقال: سجدتُ لفصاحته.
وسمع رجلاً آخر يقرأ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً} [يوسف: 80]
فقال: أشهد أنَّ مخلوقاً لا يَقْدِر على مثل هذا الكلام" أهـ (5).
وذا الإمام الخطَّابي رحمه الله؛ فبعد أن ذكر الأوجه وأجاب عنها قال: " اعلم أن القرآن إنما صار معجزاً؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمناً أصح المعاني" (6).
وقال ابن عطية رحمه الله بعد أن ذكر هذا الوجه: "والذي عليه الجمهور والحذَّاق وهو الصحيح في نفسه أنَّ التحدي إنما وقع بنظمه وصحة معانيه وتوالى فصاحة ألفاظه.} فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله {فوجه إعجازه أن الله أحاط بالكلام كله عِلْما، فأي لفظة تصلح أن تَلِي الأولى، وتُبَيِّن المعنى بعد المعنى كانت كما وردت في القرآن الكريم.
فلو نُزِعتْ منه لفظة، ثم أُدِير لسان العرب في أن يوجد أحسنَ منها لم يوجد، ونحن تَبَيَّنَ لنا البراعةُ في أكثره، ويخفى علينا وجهُها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام " (7)
غير أن من أهم ما يجب أن يعتني به دارس الإعجاز ويقف عنده طويلاً ذاك الفصل الذي سطَّرته يَراعُ أبي فهر رحمه الله في تقدمته لكتاب العالم الكبير مالك بن نبي رحمه الله في كتابه الفائق
(الظاهرة القرآنية) إذ يقول رحمه الله:
" ولا مناص لمتكلم في إعجاز القرآن من أن يتبين حقيقتين عظيمتين، وأن يفصل بينهما فصلاً ظاهراً لا يلتبس، وأن يُميِّز أوضح التمييز بين الوجوه المشتركة التي تكون بينهما.
أولاهما: أنَّ إعجاز القرآن كما يدل عليه لفظه وتاريخه، إنما هو تحدٍّ بلفظ القرآن ونظمه وبيانه لا بشيء خارج عن ذلك؛ فما هو بتحدٍّ بالإخبار بالغيب المكنون، ولا بالغيب الذي يأتي تصديقه بعد دهر من تنزيله، ولا بعلم ما لا يدركه علم المخاطبين به من العرب، ولا بشيء من المعاني مما لا يتصل بالنظم والبيان.
ثانيهما: أنّ إثبات دليل النبوة، وتصديق دليل الوحي، وأن القرآن من عند الله، لا يكون شيء منها يدل على أن القرآن معجز، ولا أظن أن قائلاً يستطيع أن يقول إن التوراة والإنجيل والزبور كتب معجزة، بالمعنى المعروف في شأن إعجاز القرآن، من أجل أنها كتب منزلة من عند الله، ومن البيّن أن العرب قد طُولبوا بأن يعرفوا دليل نبوة رسول الله e، ودليل صدق الوحي الذي يأتيه، بمجرد سماع القرآن نفسه، لا بما يجادلهم به؛ فالقرآن المعجز هو البرهان القاطع على صحة النبوة، أما صحة النبوة فليست برهاناً على إعجاز القرآن ".
ثم قال رحمه الله: "والخلْطُ بين هاتين الحقيقتين، وإهمالُ الفَصْل بينهما في التطبيق والنظر وفي دراسة إعجاز القرآن؛ قد أفضى إلى تخليطٍ شديدٍ في الدراسة قديماً وحديثاً " (8).
وقال رحمه الله أيضاً: " إن الإعجاز كائن في رصف القرآن وبيانه ونظمه، وأن ما في القرآن من مكنون الغيب، ومن دقائق التشريع ومن عجائب آيات الله في خلقه، كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المفضي إلى الإعجاز، وإن كان فيه من ذلك كله يعد دليلاً على أنه من عند الله تعالى " (9)
وانظر بتوسُّعٍ كبير، ما كتبه شيخنا العلامة الدكتور صلاح الخالدي جزاه الله في كتابه: " إعجاز القرآن البياني ودلائل مصدره الرَّباني " ففيه كبير فائدة.
فإنَّ القرآن في جملته معجزة على وجه الحقيقة، ولا يمكن لأحدٍ مهما أُتِيَ من عِلْمٍ أن يذكر السبب الذي أعجز أفذاذ العرب عن أنْ يأتوا بمثله.
¥