من خلال هذه الأسطر أفهم أن الدكتور يشير إلى أن النص القرآني يحتمل أكثر من فهم ما دام أن الكاتب أو القارئ تأثر بذلك الفهم، فيسبق الفهم أولا ثم الاعتقاد، فتتحد قراءة القراء وتتباين الأفهام، ومع ذلك النص يحتمل ويتسع فهو بحر لا تكدره الدلاء.
فإن صدق ظني وتحليلي فقد هدم بذلك حقيقة النص، ووسع التحريف، وسوغ التأويل، وأبطل التفاسير، وألغى المعاني، وجعل المحكم متشابها.
وتأكيدا لفهمي لكلام الدكتور فقد قال الدكتور: " ومثل هذا ما يقال عن أن القرآن حمال ذو وجوه وأنه يمكن أن يتضمن حكما كما يتضمن نقيضه، ويمكن أن يفهم واحد ما لا يفهمه الآخر، فهذا كله من مزايا القرآن، لأنه يفسح المجال للتعددية " [14] ا. هـ
وأثر هذا الأمر على منهجه في تفسيره للآيات حيث يلجأ إلى ترك المعاني المعتمدة في التفاسير ويأتي بمعنى يراه عصري على حسب زعمه، يتناسب والعصر الحديث، ويظهر الإسلام بلغة عصرية جميلة، معتمدا أن القرآن ذو أوجه، وكل ما فهم القارئ فهو صحيح.
وعمومية النص العمومية المطلقة هي المعبر عنها أحيانا بنسبية الحقيقة، والتي كانت مذهب السفسطائيين " نسبية كل شيء قال بها بروتاغوراس السوفسطائي حين أراد أن ينقد أصول المعرفة "إن الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس وجود ما لا يوجد" ثم أخذ بهذا الشُكاك بعد، فطبقوها على الحد كما طبقوها على نواحي العلم كله، فلم تعد حقيقة من حقائق العلم ثابتة أو مستقرة، بل كل شيء –كما يقول هرقليطس- في تغير مستمر) [15].
ثم عرفت نسبية الحقيقة، أو عمومية الحقيقة عند الغرب كنتيجة للصراع بين رجال الدين النصراني، ورجال العلم التجريبي؛ يقول الأستاذ غازي التوبة: (نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أن تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة، غير أن تكوّن تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترة أبعد من العصور الحديثة ويرتبط بالعصور الوسطى فمن المعروف أن الكنيسة كانت تنطلق آنذاك في حكمها لأوروبا من نص "الإنجيل المقدس" الذي كان ثابتاً والذي كانت تحتكر الكنيسة تفسيره، وعندما قامت حقائق علمية وكونية متعددة تناقض النص الثابت، وتناقض تفسير رجال الكنيسة له وقع التصادم المريع بين الدين (المحرف) والعلم، وكانت النتيجة اضطهاد رجال العلم بحجة مخالفة النص المقدس الثابت، ولكن الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها وأمام حقائق العلم، واعتبرت الثورة رجال الدين عقبة في طريق العلم والتقدم، وصار الربط منذئذ بين النص المقدس وثبات الحقيقة، وكذا بين العلم ونسبية الحقيقة.
ومنذ أن بدأ التفاعل بين الثقافتين: الغربية والإسلامية، كان أبرز صور التصادم بين نسبية الحقيقة في الثقافة الغربية وبين النص "القطعي الثبوت القطعي الدلالة" في الثقافة الإسلامية) [16].
ثالثا: تحكيمه لضغط الواقع
من يطالع كلام الدكتور عن بعض الآيات التي يذكرها يلاحظ أنه أحيانا يترك تفسير الصحابة، أو إجماع المفسرين، أو أنه يختار رأيا في تفسيره أداه إليه ضغط الواقع، وليس اجتهاده ونظره لمسوغات الترجيح.
فمثلا قال في انتقاده للنسخ: " ولم أقرأ كتبا من الكتب التي وضعها المستشرقون المغرضون إلا وأجد ذكرا لآية السيف التي نسخت قرابة مائة آية من آيات الصفح والسماح والحرية يستشهدون بها على وحشية الإسلام " [17] ا. هـ
وقال مبينا أن الفنون والآداب تقوم في العصر الحديث بدور بارز في التثقيف وصقل الشخصية: " واذكر ما رواه أستاذ في الجامعات الأمريكية من أصل عربي، من أن إحدى السيدات ألحت في زيارته بمنزله، ورغم غرابة هذا الطلب، فقد رحب الرجل ودعاها، فلم تكد تدخل وتشاهد بانيو كبير في الصالة حتى سألته عنه، وعندما قال لها إنه خاص به وأنه يعزف عليه أحيانا حتى ولت على أعقابها، وفهم الأستاذ بعد ذلك أن رؤية هذا البانيو دلها على أنه أستاذ مثقف متمدن كالأوربيين، وأنه ليس شرقيا بدائيا كما قد يتبادر إلى ذهن بعضهم " [18] ا. هـ
¥