وهذه القضية لها دور على منهجه في التفسير حتى يترك أقوال الصحابة والسلف في القرون الثلاثة ودافعه في هذا الترك هو استغلال المستشرقين لها، ويظهر أن الدكتور له علاقة وثيقة بكتاباتهم، ورحم الله أهل العلم حيث منعوا من قراءة كتب الزنادقة والملحدين إلا لمن هو متضلع من علم الشريعة، ولئن كان أهل العلم قديما يقولون بأن سبب المنع هو الخوف على دينه من تعلق الشبهات بها، فإن من قرأ كتب الدكتور يجزم بأن من أسباب المنع لئلا يتأثر بضغط الواقع تحتها.
فقد دعا إلى التعددية في المجتمع الإسلامي،ويقصد بها التعدد في حرية الديانة، وكان ذلك لانبهاره بالتعددية الغربية، فقد قال: " ولو استمر التقدم الحضاري للمجتمع الإسلامي ولم يبتلى بما أوقفه لكان من المحتمل أن تصل التعددية في هذا المجتمع إلى مستوى قريب مما وصلت إليه التعددية في المجتمع الأوربي " [19] ا. هـ.
وقال: " فأشهد صادقا غير حانث أني وجدت عشرات، أو مئات من الأفراد لها عقول لا تفضل عقول الأنعام، ولا تريد أن تفكر، وتسأل في كل صغيرة وتافهة، وتستفتي المفتي، أو تلوذ باستخارة، وتتحير أمام ما تعده مشاكل، وهو ما لا يقف الطفل الأوربي الصغير أمامه " [20].
واستمع إليه ينادي بترك الوقوف عند حدود الإطار السلفي إلى " إعطاء الشريعة دفعة جديدة، ولإبرازها في ثوب يتفق مع مقتضيات العصر قدر ما يختلف عن الثوب التقليدي " [21].
وحتى لا نتهم بالتحامل على الدكتور فليس مراده ما يقوله أهل العلم السلفي في زماننا من أن الإسلام يجب أن يساير تطورات العصر الحديث ولا يتخلف عنها، بل يكون قائدا لها كما كان في سابق عهده، والفرق بين القولين أن أهل العلم لم يطرأ في بال أحد منهم التخلي عن الإطار السلفي القديم، بل يرون الخروج عنه علامة على لابتداع بخلاف الدكتور فهو ينادي بترك المنهج السلفي القديم، حتى دعا في كتابه المذكور إلى ترك العمل بالحدود لأن الوقت قد تغير، فمقولته وإن كان لها شبه ببعض ما يكون حقا إلا أن منطلق القولين مختلف.
رابعا: تحكيم العقل على الشرع، وليس مجرد تقديم
تعدى الدكتور مرحلة تقديم العقل على الشرع، إلى مرحلة أخطر منها بكثير وهي تحكيم العقل على الشرع، ولئن كانت المرحلة الأولى تعطل الشرع لأنها تقدم العقل عليه، فإن المرحلة الثانية تهدم النص هدما، يقول الدكتور في معرض عرضه لفتوى لأحد مشايخ الأزهر محمد زكي إبراهيم وهي مسألة " طلاء الأظافر والوضوء " فالشيخ يرى جواز الوضوء ولو غطت اليد بالمناكير، ودليله أقيسة كما قال: " فقسنا هذا الطلاء على الخضاب " " وقسناه على صحة وضوء الصباغ " " وقسناه على جواز الوضوء مع عدم تحريك الخاتم " " وقسناه على جواز سجود المصلي على كور عمامته، وجواز مسح بعض الرأس أو عدم مسحه مع بعض العمامة أو القلنسوة " [22].
ثم قال الدكتور جمال البنا معقبا على هذه الأقيسة: " نقول إن الشيخ أثابه الله لم يكن بحاجة إلى هذه الأقيسة والتحرزات كلها، لأن استلهام أصل من أصول الإسلام أقوى من القياس على آراء الرجال مهما كانوا أئمة، وأقوى منها جميعا الرجوع إلى العقل وتحكيم المنطق السليم وطبيعة الشريعة ومقاصدها حتى وإن كان الموضوع عباديا، لأنه مادام بعيدا عن ماهية الله تعالى وعالم السمعيات فإنه يخضع لحكم العقل والنظر، وما يهدي إليه المنطق السليم " [23] ا. هـ.
وفي ظني أن هذا الأمر كان له الدور الأكبر على منهجية الرجل في التفسير، ومن هنا تقرر لديه عدم الرجوع لتفاسير الصحابة، فضلا عن غيرهم من التابعين والأئمة، وعدم الاعتداد بها، بل يرى أن النظر فيها مضيعة للوقت، وهدرا للفكر، " ويعطل ملكات التفكير ويجعلهم أسرى للروايات " [24].
وهذا يجعلنا أمام معضلة لا تعالج معالجة وجهات نظر؛ بل أمام منهج جديد خارج عن أصول هذه الملة، يحتاج إلى تحديد موقف منه يتمثل في الرفض النهائي، حتى الدكتور نفسه كان يحس بذلك فقد قال الدكتور: " مع هذا كله فنحن نعلم أن هذا الكلام لن يكون سائغا لدى كثير من الناس الذين تحجرت عقولهم واستعبدتهم أقوال الأئمة منذ انغلاق باب الاجتهاد فاستمرأوا التقليد وعجزوا عن التفكير وهيمنت عليهم قداسة السلف " [25] ا. هـ
¥