من ركائزه التي اعتمد عليها الدكتور نظرته السوداء لتاريخ الأمة المجيد، والعريق، فهو يرى أن مجد الأمة انتهى بمقتل عثمان رضي الله عنه، ثم استحال ملكا عضوضا، سيطر فيه الحكام الظلمة على الملك، وتمكنوا من تسخير الدين وأهله، والعلماء لتثبيت ملكهم فاضطر العلماء إلى استعمال الأحاديث، وتركيب الأسانيد، للترويج لأولئك الحكام، فأصبح الدكتور كلما مر عليه قول مجمع عيه أرجعه لتاريخ الأمة الذي هيمن عليه الإسناد، حتى أصبح يرى أن تاريخ الأمة وعملها لا يرجع إليه، ولا يستأنس به، فضلا على أنه قد يحتج به كما هو منهج كثير من أهل العلم.
فقال عن رسالته في الجهاد: " وهي ترى أن الجهاد كان في الماضي والحاضر من أكبر الموضوعات التي أسيء فهمها " [59].
وقال عن التفاسير: " وقد كانت مطالعاتي عبر خمسين عاما مخيبة، بل رأيت شيئا من التطفل على القرآن بل والجناية عليه " [60].
وقال عن الحجاب: " وعلى مدار ألف عام وقد خضعت المرأة المسلمة لرأي فقهي متزمت يقضي على المرأة بأن تضع نقابا كثيفا يغطي وجهها، ويحرمها من التعليم والعمل ويحول بينها وبين الاختلاط أو التعرف على المجتمع، ويجعل مهمتها الوحيدة إرضاء الزوج، وإنجاب الأبناء وتربيتهم " [61].
ثم قال: " فالحجاب الذي كان مطبقا طوال القرون الماضية كان هو النقاب الذي يغطي وجه المرأة وبالتالي يعزلها عن المجتمع، ويعزل المجتمع عنها " [62].
وقال عن الفقه: " ومنذ ألف سنة أغلق الفقهاء باب الاجتهاد ومعنى هذا أنه أصبح على المسلم أن يتعبد وأن يمارس شعائر عبادته، وأن يطبق أحكام فقهه وهي تغطي مجالات الحياة كافة، دون سؤال ودون فهم العلة، وقلنا في مناسبة سابقة إن هذا يعني أن أمة محمد أعطت عقلها إجازة ألف عام، فلنحمد الله أننا لا نزال نسير على قدمين، وكان يمكن أن ندب على أربع " [63].
فأثرت هذه النظرة على منهجه في التفسير في استبعاد كل أقوال السلف، والخروج عليها، وعدم الاعتداد بإجماعهم، مما سبق بيانه.
الثانية عشرة: استشهاده بما لا يثبت أو بالمتشابه
يلاحظ القارئ في كتب الدكتور أنه يستشهد أحيانا بقصص مكذوبة، أو ليس لها أسانيد، ولا تعرف، وأحيانا يستشهد بالمتشابه الذي يحتمل أكثر من وجه.
فقد قال عن الطبري: " ولما قال الطبري إن حديث الجلوس على العرش محال ثار عليه طائفة من الحنابلة وقذفوه بالمحابر وقذفوا داره بالحجارة " [64].
وقال عن سعيد بن جبير: " أنه قال في القرآن أربعة أحرف لحن " [65]
ولمز ابن جريج رحمه الله [66]، وعكرمة، وكعب، ووهب بن منبه [67].
وبعض ما روي عنهم مما انتقدوا فيه كثير منه لا يصح، والباقي ذكر مبتورا، ومنه ما زيد على أصله، وفيه ما لا يصل خطؤه إلى درجة الرمي بالوضع، خاصة أن كثيرا من التابعين، وقد مدحهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة بقوله " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم " [68].
وإذا أراد الدكتور الاستشهاد على دخول الوضع لكتب التفاسير فإنه يختار المواضع التي ذكروا فيها الإسرائيليات، كقصة آدم وحواء، والفتن، وتعيين المبهمات في القرآن، ولئن كان هذا ينتقد على كتب التفاسير التي ذكرَتهُ، إلا أن أهل العلم متفقون على أن ذلك لا يعني إسقاط الكتاب كله، ولا يستشهدون بذلك على أن المفسر يحرف معاني القرآن؛ بل على العكس من ذلك نجدهم يبررون ذلك بأن المفسر ابن بيئته، ويحكي في تفسيره اهتمام مجتمعه، وعصره، مع أن أكثر المفسرين نصوا في مقدماتهم على منهجهم في ذكر الإسرائيليات [69].
وهذا من الأمور التي أكثر منها الدكتور وأثرت في ظني على منهجه في التفسير حيث جعلها السبب للإعراض عن كتب التفاسير، رغم أنها لا تشكل ظاهرة في كتب التفسير بالجملة، ولها توجيه عند أهل العلم، ولهم طريقة في التعامل معها بحيث تبقى في حدودها ولا تؤثر على التفسير، وعلى ذلك سارت الأمة بحمد الله قرونا طويلة تستمد من هذه التفاسير، وتعتمد عليها، وتنقب فيها، ولو سلك الإنسان نفس طريقة الدكتور في هدم الكل لخطأ البعض لكان كمن يقتل إنسانا لفساد عضو فيه، ولم يسلم لنا من علومنا شيء، وفي ظني أن الدكتور لو سمع كلامي لقال " وهذا صحيح فلا يسلم من علومنا شيء ".
الحواشي