-القول الثاني: أنه علم مكتسب، واختلف القائلون به على قولين:
أ- فقال ابن عاشور: "علم مكتسب من الكتب أي من الحكمة، وليس المراد بالكتاب التوراة" (21).
ب- ورأى البقاعي فيه "إشارة إلى أن من خدم كتابا حق الخدمة كان الله تعالى، كما ورد في شرعنا، سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، أي أنه يفعل له ما يشاء" (22).
ولاحظ سيد قطب رحمه الله تعالى أن القرآن لم يذكر اسم الشخص (23) ولا اسم الكتاب الذي عنده علم منه، قال: "وإنما نفهم أنه رجل مؤمن على اتصال بالله، موهوب سرا من الله يستمد به من القوة الكبرى التي لا تقف لها الحواجز والأبعاد" (24).
والظاهر أنه كما قال البقاعي، وقريب منه قول سيد.
إن تنفيذ طلب سليمان عليه السلام، وهو طلب كوني مادي، يستلزم قوة خارقة، ولم يكن ما تراكم من العلم المادي -تجربة وتأليفا- حينئذ في مستوى تحقيق ذلك المطلب، فكان علم ذلك الشخص طفرة هائلة في مجال العلم مثيرة للإعجاز والاندهاش من ذلك الزمان إلى الآن وإلى ما شاء الله تعالى. ولو كان هذا علما ماديا محضا لما حصل به المقصد الدعوي الشريف.
فعلى هذا يمكن القول في تعريف هذا الشخص إنه: "رجل من حاشية سليمان عليه السلام، عارف بالله تعالى، خصه الله بعلم من كتابه المنزل وفقه لأسراره، مكنه من التصرف الخارق في الأشياء بقدرة الله تعالى".
فقولنا: "رجل"؛ وهو ما ذهب إليه جمهور المفسرين كما سيأتي.
وقولنا: "من حاشية سليمان"؛ لقوله عليه السلام: ?يَاأَيُّهَا المَلَأُ أيُّكم يأتيني?.
وقولنا: "عارف بالله تعالى"؛ لما يدل عليه السياق من كونه متحققا بعلم الكتاب، كما أن لفظ» عنده «يفيد الاستقرار، وهذا المعنى يذكرنا بمعنى الرسوخ أي الثبات المتمكن، كما قال الراغب: "الراسخ في العلم المتحقق به" (25).
وقولنا: "خصه الله بعلم من كتابه المنزل وفقه لأسراره"؛ فالكتاب كلام الله تعالى العليم القدير، وفيه من العجائب والأسرار ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد فتح سبحانه على ذلك الرجل بابا من ذلك فحصل له ما حصل.
وقولنا عن ذلك العلم بأنه "مكنه من التصرف الخارق في الأشياء بقدرة الله تعالى" تنبيه على أنه لا ينبغي النظر إلى ذلك العمل الخارق باعتبار النظر إلى المخلوق وقدرته بل باعتبار النظر إلى قدرة الخالق تبارك وتعالى.
وأما ما نقله الآلوسي رحمه الله تعالى عن الإمام الرازي ففيه نظر:
1 - فأما الوجه الأول الذي ذكره من "أن الموصول موضوع في اللغة لشخص معين بمضمون الصلة المعلومة عند المخاطب، والشخص المعلوم بأن عنده علم الكتاب هو سليمان، وقد تقدم في هذه السورة ما يستأنس به لذلك فوجب إرادته وصرف اللفظ إليه، وآصف وإن شاركه في مضمون الصلة لكن هو فيه أتم لأنه نبي وهو أعلم بالكتاب من أمته". ا. هـ
فيرد على هذا الوجه أن ذلك الرجل من حاشية سليمان كان عنده علم من الكتاب، وأما سليمان فكان عنده علم الكتاب.
وأما الوجه الثاني وهو "أن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لأحد من أمته دونه لاقتضي تفضيل ذلك عليه -عليه السلام- وأنه غير جائز".
ويتفرع عن هذا الوجه الوجه الثالث وهو "أنه لو افتقر في إحضاره إلى أحد من أمته لاقتضي قصور حاله في أعين الناس".
فيمكن القول إن ذلك لا يمنع أن يكون في مملكته عليه السلام من يقوم بمثل هذه الأشياء في مقام التسخير الذي أنعم به عليه. خصوصا وأن الجميع أقر له بالطاعة والانقياد.
وأما الوجه الرابع وهو أن "ظاهر قوله عليه السلام فيما بعد (هذا من فضل ربي) الخ يقتضي أن ذلك الخارق قد أظهره الله تعالى بدعائه عليه السلام.
فيقال فيه: وما يمنع أن يكون الظاهر أيضا من عبارة (فضل ربي) عموم النعمة بتسخير الأشياء والأشخاص والحيوان والطير والجن وغير ذلك.
¥