فعبارة "الذي عنده علم من الكتاب" بصورتها الكلية وبما علمت من دلالة عناصرها، واصفة لذلك الرجل. وقد أفادت هذه الصفة أنه تمكن من الإتيان بالعرش بتلك السرعة الهائلة بسبب ما عنده من العلم المستقى من الكتاب، مما يدل على أنه علم خاص. وقد ذكر المفسرون أقوالا في تعيين الكيفية التي نقل بها العرش (26). والقرآن الكريم أشار إلى السرعة متجاوزا ذكر الكيفية بقوله: ?فلما رآه مستقرا عنده?، فلا ذكر للمكان إلا مكان القرار .. وأما الزمان فقد ترك لك التعبير القرآني الرائع أن تحاول وتجتهد في تصوره. وقد بلغ من الدقة ما لم يبق معه منافس. ثم إن التعبير يقفز على تفاصيل موافقة سليمان على هذا الاختيار إمعانا في تصوير السرعة الفائقة. قال أبو السعود: "?فلما رآه مستقرا عنده? أي رأى العرش حاضرا لديه، كما في قوله عز وجل: ?فلما رأينه أكبرنه?، للدلالة على كمال ظهور ما ذكر من تحققه واستغنائه عن الإخبار به ببيان ظهور ما يترتب عليه من رؤية سليمان عليه السلام إياه، واستغنائه أيضا عن التصريح به؛ إذ التقدير: فأتاه به فرآه فلما رآه .. الخ، فحذف ما حذف لما ذكر وللإيذان بكمال سرعة الإتيان به، كأنه لم يقع بين الوعد به وبين رؤيته عليه الصلاة والسلام إياه شيء ما أصلا، وفي تقييد رؤيته باستقراره عنده عليه الصلاة والسلام تأكيد لهذا المعنى؛ لإيهامه أنه لم يتوسط بينهما ابتداء الإتيان أيضا كأنه لم يزل موجودا عنده مع ما فيه من الدلالة على دوام قراره عنده منتظما في سلك ملكه" (27).
ومما يلاحظ في هذا التعبير بالنظر إلى السياق فيما يتعلق بالتقابل ما يلي:
قوبل في هذا النص بين هذا الشخص وبين» عفريت من الجن «، ولعله بالنظر إلى هذه المقابلة اختلف المفسرون في طبيعته هل هو ملك (28) أم بشر (29).
وبالنظر في هذه المقابلة يمكن تسجيل ما يلي:
-أن هذا العفريت من الجن يظهر أنه كان أقوى العفاريت الحاضرين حينئذ، بدليل أنه لم ينافسه أحد منهم، فهو يمثل النموذج الجني في القوة، وفائدة مقابلته –من هذه الجهة- بالذي عنده علم من الكتاب أنه يمثل النموذج البشري في العلم، وأن العلم يستوعب القوة، ولا عكس.
- أن كليهما مندرج في مفهوم» الملأ «، وهو الذي وجه إليه سليمان الخطاب، على جهة تفيد التمكن منهم وخضوعهم لحكمه. وهذا المعنى أليق بمن هم دون الملائكة، ولا يظهر دخولهم في دائرة التسخير الذي وهب لسليمان. فلذلك نستبعد أن يكون ذلك الشخص ملكا.
- أن هذا الملأ معروف عند سليمان بتنوعه جنسا، وتفوقه قدرة وطاقة. فهو منتخب مختار، وأما الملك فذو طبيعة وقدرة تتجاوز هذا المجال.
فيبقى أنه رجل من الإنس ولي عالم بالله تعالى، وقد تمكن بهذه الحال من تجاوز العفريت. والمقابلة تبين هذا بوضوح:
-ففي تقديم العفريت في الذكر إشارة إلى عجلته في استناده إلى القوة الجسمانية، بلا تأن للتفكير قبل التعبير، وفي تأخير مقابله إشارة إلى رزانة العلم الذي يتأنى بصاحبه لمعرفة الواقع قبل المبادرة إلى اقتحامه، وفيه أيضا تواضع إذ لم ينتدب نفسه قبل عجز الآخرين.
- أن العفريت احتاج إلى وقت مشروط بمدة، بينما لم يحتج الرجل إلى ذلك.
- أن العفريت احتاج مع هذا الزمان إلى تأكيد قوته قولا قبل التنفيذ فعلا. وفي نسبته القوة إلى نفسه ما فيها!! بينما لم يحتج الرجل إلى هذا التأكيد. وقد لاحظ أبو السعود رحمه الله تعالى في قوله تعالى ?قال الذي عنده علم من الكتاب? "فصلا عما قبله للإيذان بما بين القائلين ومقاليهما وكيفيتي قدرتيهما على الإتيان به من كمال التباين أو لإسقاط الأول من درجة الاعتبار" (30).
- أن كليهما اتفقا في نسبة الإتيان بالعرش إلى نفسيهما، مع أن "الفاعل" في الحقيقة هو الله تعالى؛ ولكن صيغة تلك النسبة متوافقة مع الصيغة التي استعملها سليمان عليه السلام حين قال: ?أيكم يأتيني بعرشها?، وبهذا يظهر التسخير.
والله تعالى أعلم بالصواب.
الهوامش:
1 - المفردات/ عند.
2 - معجم النحو ص:254.
3 - إرشاد العقل السليم 6/ 287
4 - معجم ألفاظ العلم ص:112
5 - الكشاف 2/ 149
6 - أنوار التنزيل 4/ 268.
7 - الوجيز 2/ 804
8 - إرشاد العقل السليم 6/ 287
9 - روح المعاني 19/ 204.
10 - المحرر 11/ 209.
11 - نظم الدرر 14/ 164.
¥