تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

جاء في تاريخ نيسابور -فيما نقله مغلطاي في الإكمال (7/ 130) -: سئل يحيى بن يحيى: الشعبي أدرك أم سلمة؟ فكأنه قال: (لا).

ويحيى إمامٌ ثبتٌ حجة، وشَكُّهُ أقوى مِنْ جزم مَنْ دونه.

ونفيُه هنا متوجِّهٌ إلى اللقاء والسماع بلا شك؛ لأن الإدراك الاصطلاحي حاصلٌ متحقق، ولا سبيلَ لنفيه.

ومما يقوِّي القول بالانقطاع:

1 - رواية ابن أبي شيبة لحديث دعاء الخروج من المنزل، حيث جاءت الرواية عنده (29810): (عن الشعبي، قال: قالت أم سلمة: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ... ).

والظاهر أن قوله: (قالت أم سلمة) هي الصيغة الأصلية لرواية الشعبي لهذا الحديث، واختصرها بقية الرواة إلى (عن أم سلمة)، أو: (يحدث عن أم سلمة)، وهاتان الصيغتان محتملتان للسماع وعدمه.

وهذه الصيغة (قالت أم سلمة) مُشعِرةٌ جدًّا -وإن كانت غير صريحة- بأن الراوي لم يسمع المَقُول من أم سلمة، ولذا عَدَل عن صيغ السماع (سمعت، حدثتني، ... ) إلى صيغة القول (قالت).

ومما يؤيد ذلك: قول ابن الغلابي -كما في سؤالات ابن الجنيد (ص318) -: (يزعمون أن عقبة بن أوس السدوسي لم يسمع من عبدالله بن عمرو، إنما يقول: "قال عبدالله بن عمرو").

2 - ويقوِّي القول بالانقطاع أيضًا: أن أم سلمة من أهل المدينة، والظاهر أنها ماتت فيها، وذلك بعد سنة سِتّين بقليل، وأما الشعبي؛ فكان من أئمة أهل الكوفة.

وقد كان الشعبي رحل إلى المدينة، وأقام بها مدة، قال ابن سعد -في الطبقات (6/ 248) -: (وكان سَبب مُقامه بالمدينة: أنه خاف من المختار، فهرب منه إلى المدينة، فأقام بها)، وإنما ظهر أمر المختار في سنة ست وستين -كما في البداية والنهاية (12/ 5) -، أو قبلها بقليل، وكان ذلك بعد وفاة أم سلمة بسنوات.

فهذا يُوَضِّح أنه لم يكن للشعبي أن يلقى أم سلمة فيسمع منها؛ لكونه كان بالكوفة، ولم يلبث بالمدينة مدةً إلا بعد وفاتها.

ويشكل على هذا: أن الشعبي قد سمع من أبي هريرة -وحديثه عنه في الصحيحين-، وأبو هريرة مدني، وقد توفي قبل أم سلمة.

إلا أن هذا غير ناهض لتقريب سماع الشعبي من أم سلمة، وذلك أن الشعبي كما روى عن أبي هريرة متصلاً، فقد روى عنه بواسطة، قال الترمذي -في سننه (3/ 433) -: (أدرك الشعبيُّ أبا هريرة، وروى عنه ... ، وروى الشعبي عن رجلٍ، عن أبي هريرة)، وحديث الشعبي عن أبي هريرة قليل، ولعله قد لقيه لقاءً عارضًا، فسمع منه أحاديث، وروى عنه في البقية بواسطة.

وكل هذا لا يُصار معه إلى الحكم بأن الشعبي لقي أم سلمة، أو بأن لقاءهما قريب.

ويؤيد ذلك: أن هذا غيرُ خافٍ على الإمام علي بن المديني -أستاذ البخاري-، ومع ذلك فقد نفى سماعَ الشعبي من أم سلمة، بل نفى سماعَ الشعبي من مدنيٍّ آخر توفي بعد أم سلمة:

3 - فمما يقوِّي القول بالانقطاع كذلك: أن ابن المديني نفى -كما سبق- لقاءَ الشعبي لأبي سعيد الخدري، وأبو سعيد مدنيٌّ كأم سلمة، وفي تحديد وفاته خلاف، إلا أنه -على جميع الأقوال- قد بقي بعد أم سلمة، سنةً فما فوقها.

وإذا كان لم يلقَ أبا سعيد وقد بقي بعد أم سلمة مدةً، فأولى به ألاّ يلقى أم سلمة.

4 - كما أن الحجة الأقوى في القول بعدم السماع: عدم ورود التصريح بالسماع بأي صيغة في أي رواية للشعبي عن أم سلمة.

وكل هذا يؤكد صحة قول الحافظ ابن حجر المنقول آنفًا، حين أبعد هذه المسألة عن مسألةِ المعاصرة والخلاف بين البخاري ومسلم؛ فإن مسلمًا كان دقيقًا في ضبطه للمسألة، حيث اشترط في جملة ما اشترط: إمكان اللقاء والسماع، وقد تبيَّن فيما سبق أن الإمكان غير متحقِّق؛ لوجود القرائنِ المبعدةِ له، غيرِ نفي ابن المديني (وهذا النفي وحده هو ما اعتمده ابن حجر في ذلك)، على أن ابن المديني من أهل الاختصاص والعناية بباب الاتصال والانقطاع -كما سبق-، وقوله في ذلك قويٌّ معتَمَد.

وأما قول أبي داود بإثبات السماع، فالجواب عنه على مرتبتين:

الأولى: التشكيك في ثبوته عنه، فإن الآجري وإن تلقى الناس سؤالاته بالقبول؛ له عن أبي داود بعض التخاليط والأخطاء والأغلاط، وربما نَسَب إلى أبي داود نقلاً عن بعض الأئمة يُخالف ما يصح عنهم، ونحو ذلك.

فلا يُستبعد أن يُخطئ مثلُه على أبي داود في مثل هذه المسألة الدقيقة.

وللباحثين في رواية الآجري عن أبي داود كلام، وجُمعت في غيرِ موضعٍ نماذجُ وأمثلةٌ على أخطائه عنه.

الثانية: أن ذلك -في حال ثبوته عن أبي داود- رأيٌ له بناه على ما ظهر له من أدلة، والأدلة والقرائن الظاهرة لدينا تدل على خلافِ قوله، وترجيحِ قول ابن المديني وغيره ممن حكم بالانقطاع.

وبناءً على ما سبق؛ يتَّضح النظر الواقع في إعمالِ قاعدة (تقديم المثبت على النافي)، والتقصيرِ في البحثِ عن الأدلة والقرائن والأحوال والتواريخ ونحوها، بل ونفي وجود ذلك.

بل إن إدخال تلك القاعدة في علوم الحديث وصناعته محلُّ بحثٍ من أصله.

ويُنظر حولها هذا الموضوع:

http://majles.alukah.net/showthread.php?t=19423

تنبيه:

الاحتجاج بصنيع المزِّي في ذكر أم سلمة في شيوخ الشعبي على أنه يحكم بالاتصال= احتجاجٌ ضعيف، ويُراجَع تفنيده وردُّه في (الاتصال والانقطاع)، للشيخ إبراهيم اللاحم (ص51 - 59).

تنبيه آخر:

بُحثت المسألة في كتاب (التابعون الثقات)، لمبارك الهاجري (2/ 491 - 494)، وقد جمع فيها الباحث جمعًا طيبًا يُستفاد منه، وإن كان خلص إلى نتيجةٍ مخالفة.

والله أعلم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير