التدليس عند المتقدمين هو اخفاء الثقة لراو في الإسناد قصدا, بشرط:
_ ان لا يعرف المدلس ان تدليسه تسترا على كذاب او ضعيف عنده.
_ ان لا يستعمل صيغة صريحة في نسبة الحديث الى من لم يسمع منه.
فإن علم ذلك او استعمل صيغة صريحة, اصبح كذبا وغشا في الدين مسقط للديانة فضلا عن المشيخة.
ويقسّم عند المتأخرين الى تدليس الاسناد او التسوية وتدليس الشيوخ, وهو اصطلاحي لا يجني كثير فائدة.
ويهمنا هنا الحديث على تدليس التسوية
توضيح لتدليس التسوية:
اعلم ان العنعنة او التقويل يدلان على نسبة القول الى المنسوب اليه, سوى صدر منه لفظا او اشارة او كتابة ..... وسوى كان الأخذ منه مباشرة او بواسطة او اكثر, وبالتالي لا تعتبر عيبا في نفسها. الا اذا كان المعنعن او المقول يشك في صدق وحفظ الواسطة, او يعلم انه غير امين ولا حافظ, فيصبح افتراء او اقتحام للكذب.
انما اصبحت هذه الصيغ تدليسا, عند اقترانها بما يوهم السماع من الشيخ المرفوع اليه الحديث, وذلك في حالات:
_ ان يكون هذا الراوي من تلاميذ الشيخ وسمع منه الا في الاحاديث التي دلسها فانه اخذها من الشيخ بواسطة اسقطها.
_ ان يكون هذا الراوي لم يسمع اي حديث من هذا الشيخ وهو من اهل بلده وعاصره اوالتقى به, ثم اسقط الواسطة كذلك بصيغة محتملة لسماعه منه.
وينتفي عنه التدليس في الحالتين الماضيتين ويتحول الى مرسل اذا كان مبينا لذلك.
_ ان يستعمل الراوي هذه الصيغة وهو يعرف ان مستمعه يحملها على سماعه من الشيخ.
وينتفي عنه التدليس الى الإرسال في هذه الحالة, عند اصطلاح السامع والراوي على عدم حملها على السماع.
_ اما اذا كانا غير متعاصرين او تباعدت بلدانهما- اي اشتهر عدم التقائهما عند العام والخاص- فهذا لايعتبر تدليسا انما هو مرسل.
قال الخطيب البغدادي:" وإنما يفارق- اي المدلس- حاله حال المرسل بإيهامه السماع ممن لم يسمع منه فقط, وهو الموهن لأمره, فوجب كون هذا التدليس متضمنا للإرسال والإرسال لا يتضمن التدليس, لأنه لا يقتضي إيهام السماع ممن لم يسمع منه, ولهذا المعنى لم يذم العلماء من أرسل الحديث وذموا من دلسه ... "
ثم ذكر الخطيب المؤاخذات على المدلس, وقد لخصها اليماني في الكاشف بما يلي:
أولاً: إيهامه السماع ممن لم يسمع منه
ثانياً: إنمالم يبين لعلمه أن الواسطة غير مرضي
ثالثاً: الأنفه من الرواية عمن حدثه
رابعاً: إيهام علو الإسناد
خامساً: عدول عن الكشف إلى الاحتمال
ثم قال اليماني: ان هذه منتفية في حق الصحابة فلا يوصفون بالتدليس
قلت: وكذلك إذا انتفت هذه المقاصد في حق راو من التابعين او تابعهم لم يعتبر مدلسا:
لأن الرواة يستعملون العنعنة او غيرها من الصيغ لمقاصد اخرى غير التدليس, مثل:
اختصار السند لعدم احتياج المستمع لذكر الواسطة, او شهرة القول عن صاحبه, او يكون المروي عنه غير معروف عند اهل البلد, او يكون في مقام مخاطبة للعوام ووعضهم, او اسقط الواسطة عمدا في مجلس عام لأنه يعرضه للخطر من السلطان مثلا ..... ويؤخذ عنه هذا الحديث في هذه الحالات.
وهنا نقاط يجب تبيينها ليتضح منهج المتقدمين في الإتهام بالتدليس وهي:
1_ بدأ الإهتمام بذكرالأسانيد ووصلها بعد ظهور الفتن والكذب عن النبي صلى الله عليه وسلم من الفرق, روى مسلم في مقدمة صحيحه 15 عن ابن سيرين قال: " لم يكونوا يسألون عن الاسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم ".
ولهذا كان من عادة كبار التابعين الإرسال لعدم فشو الكذب بينهم الا في حالات التثبت, ومنه كثرت مراسيلهم, ثم طبقة من بعدهم اقل مراسيل, ثم اقل في صغارهم كالزهري, وبقيت آثار هذا المنهج في التساهل الى نهاية القرن الأول في المدينة خاصة, لسلامة اهلها من الكذب والبدع, ولهذا تجد كثرة المراسيل والمنقطعات عند رواة المدينة, ولكن في العراق كان التشدد في المطالبة بتسمية رجال السند ووصله مبكرا.
ولهذا من غير اللائق وصف التابعين او اتباعهم من اهل البلاد المستورة لعدم قصدهم مقاصد التدليس, فهذه مراسيل تسري فيها احكام المراسيل.
¥