تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

تولّى الإمامة في مسجد الموصلي في الميدان ثم انتقل إلى جامع عنَّابة في حيّ الحقلة، فكان يؤمُّ الناس ويخطب الجمعة، وكانت خطبه متميزة بإيجازها وبأسلوبها فقد كان يكتب الخطبة ببيانه الذي تحدثنا عنه آنفاً، ويعالج موضوعات تتصل بحياة الناس، وكان أداؤه للخطبة موفَّقاً جدّاً، فكان لا يلحن أبداً، وكان يخصّ الخطبة الثانية بفائدة فقهية مما يحتاج إليه الناس. وكان ينيبني أحياناً لأقوم بالخطبة وقد سألت بنته الأستاذة رشيدة عن هذه الخطب. فقالت:

إنني بعد وفاته خفت عليها من الضياع فجمعتها وجمعت ما ترك من كتب وأوراق وسلّمتها إلى الشيخ صادق حبنّكة في جامع منجك في حيّ الميدان، وهي لا تدري شيئاً عنها.

وكنت ممن يسعد بسماع هذه الخطب الكبيرة القيمة والفائدة في أكثر أيام الجُمَع وعندما زار دمشق العّلامة الدكتور تقي الدين الهلالي طلبت منه أن يدعوه لإلقاء خطبة الجمعة فاستجاب، وأعلنّا في بعض الصحف أن الدكتور الهلالي سيلقي الخطبة في جامع عنابة فسارع كثير من الناس إلى الجامع. وكانت خطبة مشهودة.

كان -رحمه الله- عفيف النفس، مع أنه مرّ في بعض مراحل حياته بضيق وفقر، فكان لا يقبل شيئاً من أحد، وقد حاول بعض المحسنين أن يقدم له مساعدة فاعتذر عن عدم قبولها بقوله: (الحمد لله أنا بخير ولست بحاجة).

وأشهد أنه كان من الصادقين الصابرين، فقد مرت به أزمات عائلية واقتصادية وصحية في نفسه وأسرته فكان يقابل ذلك بالصبر والدعاء والالتجاء إلى الله، والأخذ بالأسباب من مراجعته الأطباء، فقد كان يسافر إلى بيروت في أزمة صحية ألمت بزوجته وكان يسافر بها أسبوعياً لهذا الغرض.

وكان ورعاً أعظم الورع، فكان إذا دعي إلى طعام سأل عن مال الداعي، فإن كان فيه شبهة اعتذر، وإن كان لا يمكنه الاعتذار أكل في بيته ثم ذهب إلى الدعوة وتظاهر بأنه يأكل ولكنه لا يفعل.

وكان متابعاً للمجلّات الإسلامية والكتب الإسلامية الحديثة، يقرؤها ويقوّمها؛ فقد قرأ مرة كتاباً بعنوان (الإسلام المصفَّى) فقال لي: ليس هذا الكتاب بالمصفّى بل هو المشوِّه لدين الإسلام المحرِّف لحقائقه.

كان يحضر دروس العّلامة الشيخ صالح العقاد، وما كان يتخلف عن حضور درس الجمعة، وكنت أذهب معه إلى الدرس ونعود معاً؛ ذلك لأننا جيران والدرس في بيت الشيخ في حيّ الصالحية. وكذلك فقد كنت أحضر معه أحياناً دروس الشيخ في النورية [3].

كنت ألقاه يومياً في المسجد في الصلوات الخمس، وكان حديثه نافعاً، وأذكر أنه اطلع على مقالة للشيخ علي الطنطاوي نشرها في مجلة المسلمون عنوانها (يا بنتي) فأعجب بها، وقال: أرى أن تطبع هذه المقالة في رسالة وتوزَّع على الطالبات وقال: أنا مستعدّ للتبرع بمبلغ ذكره لطباعتها، ودفع المبلغ المذكور وكنت حينذاك عضواً في لجنة مسجد الجامعة: الجامعة السورية، فاقترحت على اللجنة إنشاء فرع للنشر وأن تكون هذه الرسالة أول رسالة فجمعنا تبرعات يسيرة وضممناها إلى المبلغ الذي دفعه الشيخ ونشرنا الرسالة ووزعناها على طالبات الجامعة. وقدّر الله أن يتتابع نشر الرسائل وأن يظهر بعد ذلك عدد من الرسائل عن لجنة المسجد يزيد على المائة [4].

وكان على صلة وثيقة بشيخنا محمد بهجت البيطار رحمه الله وكذلك فقد كانت له صلة بالشيخ سعدي ياسين الذي كان إذا جاء من بيروت اتصل به وزاره، وكذلك فقد كانت له صلة بالشيخ محمّد ناصر الدين الألباني وكانت له صلة وثيقة بالعلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة الذي كان يزوره كثيرا كلما جاء إلى دمشق من مكة المكرمة في فصل الصيف وقد عرفته عنده وأهداني بعض مؤلفاته.

وكذلك فقد كانت له صلة بالشيخ زين العابدين التونسي، وكان يصلي إماماً معه في مسجد الخانكية أول الأمر، وكانت له صلة بالشيخ سعيد الحافظ وعندما انتشرت المدارس الحكومية، اتجه الناس بأولادهم إليها فضعف شأن المدرسة، فافتتح مكتبة في الميدان مقابل مدرسة خالد بن الوليد، يبيع فيها الكتب والقرطاسية. ومما أذكره في ذلك أنه كتب بخطه الجميل لوحة على باب المكتبة نصُّها: (رائحة الدخان تؤذينا فنحِّ عنا سيجارتك يرحمك الله).

ثم أكرمه الله بأن فتحت بنته مدرسة لتعليم البنات وتحفيظ القرآن الكريم فكان عليها إقبال شديد أغناه الله بذلك وجزاها الله الخير.

وكان عفّ اللسان لا يذكر أحداً بسوء ولا يغتاب أحداً ومجالسه كلها مجالس خير وعلم ودعوة، وكان يشجّع الحركات الإسلامية، ويحضّ على مطالعة الكتب الإسلامية، وأشهد أنه كان من الصادقين الصابرين.

ولي معه ذكريات كثيرة، أحسن الله إليه ورحمه الله وغفر لنا وله وجزاه عن المسلمين الخير.

وتوفِّي رحمه الله في 3 ذي الحجة من سنة 1385هـ 1965م ودفن في حيّ الميدان بدمشق.

هذا العالم الفاضل لم يُعط حقّه من التعريف وبما أني من تلامذته ومن جيرانه ومن أصدقائه كتبت ما كتبت واعتمدت في هذه المعلومات على خبرتي الشخصية، وكذلك على ما ذكرته لي بنته الأستاذة رشيدة -حفظها الله- بالهاتف.

هذا وقد كتب لوحة بخطه الجميل فيها بيتان من الشعر وكان يكررهما ويصدر عنها في حياته والبيتان هما:

يا لهفَ قَلبي على شَيئينِ لو جُمِعا عِندي لكُنتُ إذن من أسعَدِ البَشَرِ

كَفافُ عَيشٍ يَقيني ذُلَّ مَسألةٍ وخِدمَةُ العِلمِ حتَّى يَنقَضي عُمُري

،، شكر الله لكم

.ـــــــــــــــــــ

[1] انظر ترجمته في الأعلام للزركلي 4/ 11 ط 4.

[2] انظر ترجمته في تتمة الأعلام لمحمد خير رمضان يوسف 1/ 357 ط1.

[3] وهي مدرسة (مؤسسة جامعية) ذات شأن بناها السلطان نور الدين الشهيد ودفن في قبر خلفها.

[4] انظر تفصيل ذلك في المقدمة التي كتبتها للجزء الثاني من رسائل الجامعة التي أعاد طبعها المكتب الإسلامي.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير