وبعد قضاء مناسكه، قفل راجعاً إلى بلده الشحر، وقد تنكرت له، وضاقت به ذرعا، لنفور أهلها عنه. وبينما هو كذلك إذ قدم إلى الشحر جماعة من عائلة آل باوزير، قدموا من مدينتهم غيل باوزير، فالتقوا بالعلامة ابن سلم، وحضروا درسه في (مسجد ابن عمران)، وكان عنده نفر قليل. ولندع الشيخ أحمد بن عبدالقادر الملاحي يقص علينا ما حدث في هذا اللقاء.
قال في "مذكرته": "وبينما هو كذلك صابر على المكائد، ونفور قومه منه ومن الاستماع إلى دروسه، إذ فتية غرباء، جاؤوا إلى قاضي الشحر ليتحاكموا في قضية عجز عن الحكم فيها قاضي بلدهم، يستأنفون دعواهم في الشحر، فحولهم أمير الشحر إلى صاحب الترجمة، للبحث في صفة حكم قاضي الغيل، فحضروا درسه في مسجد ابن عمران في سوق شبام بعد المغرب، وكان أصغرهم له إلمام بطلب علم الفقه، فصار هذا الشاب يلقي أسئلة على الشيخ والشيخ يجيب عليها بكل وضوح، فلما رأى الشيخ منه اللهف والحرص على الاطلاع والتفهم نظر إليه بعين الفراسة، وقال له: من أين أنت؟، فقال: من بلد غيل باوزير، فقال الشيخ: ما اسمك؟، فقال: عبدالصادق، فقال الشيخ: عبدالصادق؟!! (قال ذلك على سبيل المرح متبسما)، فقال الشاب: نعم، عبدالصادق، الصادق اسم من أسماء الله الحسنى، فقال الشيخ: هكذا؟! (وهو متبسم، ويتفرس في ذكاء هذا الشاب، ومقدار شغفه على طلب العلم)، فقال الشاب: نعم، هكذا ذكره المؤلف في كتابه الجامع الكبير، فقال الشيخ – على سبيل التعجب والمدح والتلطف بالشاب الغريب الذي يتكلم بجرأة ونباهة بدون انكماش -: الجامع الكبير أيضا؟!!، وهل تعرف الجامع الكبير؟، فقال الشاب: نعم، فقال له الشيخ: عند من تقرأ هناك في الغيل؟، فقال: ما حصلنا أحد مثلك يعلمنا، قم معنا إلى الغيل، فقال الشيخ: وهل هناك طلبة مثلك يحبون طلب العلم؟، فقال الشاب: نعم فيه، وأنا أجلب لك طلبة كثيرين، وكلهم يحبون العلم، فقال الشيخ: ما عندي مكان هناك، ولا أعرف أحدا أقصد عنده فقال الشاب: تعال عندي في بيتي، وسنجعل لك مكانا للجلوس فيه.
وعندئذ عزم الشيخ على الهجرة عن وطنه ومسقط رأسه الذي تنكر عليه، وخيبت آماله التي كان يؤملها فيه، وهكذا هاجر إلى الله ورسوله، لعله تتسنى له بقعة مباركة تصلح لغرس آماله، ونشر الشريعة المحمدية". انتهى ما أردنا نقله من "مذكرة" الملاحي.
وفي سياق هذه الحادثة فوائد عديدة، منها:
• أن هذه الحادثة كانت قبل سنة 1320هـ، فلعلها كانت في أواسط سنة 1319هـ. وإنما قلنا ذلك لما يأتي، من أن افتتاح الرباط كان في محرم سنة 1320هـ، وافتتح ابن سلم بعض دروسه في فاتحة صفر من السنة نفسها.
• ولهذا كان تعبير المؤرخ باوزير أوفق حين قال: "قدم الغيل سنة عشرين تقريبا".
ألا أنه قال بعد ذلك: "وابتنى رباطه المشهور بعد أشهر من قدومه".
والمسألة بحاجة لتحرير تأريخ التقاء الشيخ عبدالصادق باوزير بالعلامة ابن سلم، وتأريخ وصول ابن سلم إلى غيل باوزير.
• ومنها: أن أول من تتلمذ على المترجم من أهالي غيل باوزير هو الشيخ عبدالصادق بن سالم بن عبدالصادق ابن قويرة باوزير.
• ومنها: أن غيل باوزير آنذاك كان بها جماعة من طلاب العلم.
• ومنها: أن غيل باوزير لم يكن بها عالم مشارك في العلوم، يقوم بالتدريس ونشر العلم، وأن من كان بها لا يصلون إلى مرتبة صاحب الترجمة. فبلاد الغيل آنذاك "طال عهدها بالعلم وأقفرت ربوعها منه".
• ومنها: أنه لم يسبق لصاحب الترجمة أن زار غيل باوزير قبل رحلته، وأنه لا يعرف بها أحدا.
• ومنها: أن كتاب "الجامع الكبير" كان موجودا بالغيل، هذا إن صح أنه أراد "الجامع الكبير" للحافظ السيوطي، وهو كتاب كبير، يقع في مجلدات عدة. ولا أظن أنه المراد، بل الذي يظهر لي أنه أراد كتاب "الجامع الصغير" للسيوطي نفسه، إذ هو المشهور المتداول، ويقع في مجلد واحد أو مجلدين.
وهكذا كانت مدينة غيل باوزير على موعد لتكون منارة من منائر العلم في حضرموت، ومشعلا يضيء جنبات هذا القطر، ورافدا له بالعلماء والقضاة والأدباء وغيرهم، إنه تحول تاريخي، ونقلة هائلة لهذه المدينة الوادعة.
قدومه إلى غيل باوزير واستقراره بها:
وفد العلامة ابن سلم إلى غيل باوزير في أجواء سنة 1320هـ، أو قبلها.
¥