لم أشرف بالتتلمذ المنتظم على الشيخ، ولكني سعدت بالاستماع إلى دروسه في المسجد، ولا أزال أذكر بامتنان مبادراته وهو يراني شاباً صغيراً أشدو في طلب العلم فدعاني يوماً وقال: أراك تقرأ عند فلان وعند فلان، ولكني أرى أن هذا لا يؤسس منهجية علمية، ثم وجهني إلى التركيز وليس التشتت، وإلى التعمق وليس التوسع.
بل كان يبادر إلى أكثر من ذلك؛ فقد دعاني يوماً وقال: أرى فلاناً يحدثك وليس ممن يصلح لك الجلوس معه، ولقد استجبت للشيخ حينها بدافع الحب والإجلال له، وعرفت بعد حين من الدهر المعنى الذي حذرني من أجله.
وبقيت لقاءاتي بالشيخ بعد أفاويق متباعدة، فُيذَكِّرني في كل مرة ألقاه بأيام الصبا قبل أن ألبس الغترة على الرأس، وكان يسأل باهتمام عما يهمه وهو العلم، وعندما علم أني اخترت تخصصاً في السنة النبوية اقترح عليّ بحثاً في إيضاح السنة بالسنة على نحو إيضاح القرآن بالقرآن.
كان اللقاء الأخير معه في الإفتاء لقاء مؤثراً؛ فقد التقيت به وهو خارج للصلاة، فأمسك بيدي، واحتضنها على صدره، ولقد شعرت بهزة وجدانية؛ لأني أعرف أن الشيخ مقتصد في العطاء العاطفي. احتضن يدي ثم جعل يتحدث عن الدنيا وتحوّلها وتغيرها، وأنها لا تدوم لأحد، حدثني عن قصر فخم من القصور التي كانت في الرياض، وكان يتساءل: أين أهله؟ أين عماره؟ أين حرسه؟ وكان حديثاً وجدانياً مؤثراً تمنيت لو طالت بنا المسافة إلى المسجد.
كان يتحدث عن الحياة حديث المودع للحياة، كان يتحدث وكأنما ينعى نفسه، وكان هذا من آخر أيامه في رئاسة الإفتاء.
ثم زرته في المستشفى، فوافيته جام القوة، رائق النفس، تحدثنا قرابة الساعة، واستروح في الحديث، وتحدث عن الشخصيات التي أعجب بها. كانوا ثلاثة: الشيخ الأمين الشنقيطي، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ محمد بن إبراهيم، وكان القاسم المشترك بينهم رجاحة العقل وسطوع الذكاء.
وكان إذا تحدث عن أحدهم قال: كان عقله يسبق لسانه.
سألته: كيف كان بدء تحوّله إلى التعمق في المنطق والأصول؟
فقال: كنت في أيام الدراسة أمعن النظر في مسائل التصور والتصديق حتى صار لي عناية بهذا العلم.
سألني عن شيخي الشيخ سلمان العودة فأخبرته أنه في سفر فقال: أقرئه مني السلام، ثم وضع يده على صدره وقال: هو سلام من هنا، ثم رفع يده إلى فمه وقال: وليس من هنا.
كان من وصاته لي وأن أبلغها للشيخ سلمان العناية بعلم المآلات، وأوصاني برسالة: (مآلات الأفعال) للدكتور وليد الحسين، وأخبر أنها رسالة متميزة أو حسب تعبيره: (زينة بالحيل).
وكان الشيخ نهماً في جمع الكتب واقتنائها ومتابعة ما يجد منها، بحيث أحسب أن مكتبته من أكبر المكتبات العلمية الخاصة.
لم يؤلف الشيخ كتباً، ولكن ربّى طلبة نجباء أعطاهم بسخاء أثمن ما عنده .. عمره وعلمه، ثم تركهم زينة لحياتنا العلمية، علمهم امتداد لعلمه وعطاؤهم امتداد لعطائه.
كان مدمناً للعلم بحيث قضى من عمره المبارك ثلاثاً وستين سنة في بلاغ العلم قضاء وإفتاء وتعليماً.
وكان عاشقاً للعلم بحيث لم يدع المذاكرة فيه والوصاة به وهو على سرير المرض وفراش الموت.
رحم الله شيخنا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الغديان رحمة واسعة، وجمعنا وإياه في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
http://islamtoday.net/nawafeth/artshow-43-135325.htm (http://islamtoday.net/nawafeth/artshow-43-135325.htm)
ـ[العوضي]ــــــــ[02 - 07 - 10, 08:32 م]ـ
ما أجمل ما كتبه د / عبدالوهاب
رحم الله العلامة ابن غديان وكم كنت أتمنى اللقاء به
ـ[نايف أبو محمد]ــــــــ[03 - 07 - 10, 04:16 ص]ـ
سألني عن شيخي الشيخ سلمان العودة فأخبرته أنه في سفر فقال: أقرئه مني السلام، ثم وضع يده على صدره وقال: هو سلام من هنا، ثم رفع يده إلى فمه وقال: وليس من هنا.
كان من وصاته لي وأن أبلغها للشيخ سلمان العناية بعلم المآلات، وأوصاني برسالة: (مآلات الأفعال) للدكتور وليد الحسين، وأخبر أنها رسالة متميزة أو حسب تعبيره: (زينة بالحيل).
??
رحم الله الشيخ كان ذكياً