تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[من أجمل ما قرأت عن الشيخ العلامة ابن غديان رحمه الله]

ـ[فريد المرادي]ــــــــ[02 - 07 - 10, 08:24 م]ـ

بسم الله الرحمن الرحيم

زكاء يتلظى ذكاء

الشيخ د. عبد الوهاب بن ناصر الطريري - وفقه المولى -

كالنقش في الحجر ما حفظت في الصغر من أحاديثه قبل صلاة العشاء، فهو إمام مسجد حينا يتحدث قبل صلاة العشاء حديثاً يطول قرابة الساعة في التفسير والحديث والوعظ، وكانت تلك الأحاديث نقلة عما اعتدنا عليه قبلها من قراءات طويلة مملة لنا نحن الصبية، أما حديثه فكان يشعر المستمعين جميعاً أنه يعني كل واحد منهم، و كنا نجتمع أطفالاً في المدرسة الابتدائية فأتحدث أنا وزميلي محمد القصير في الصباحات عن حديث الشيخ مساء البارحة، ثم كبرنا وكبرت معرفتنا بالشيخ، وكلما كبرنا ازددنا إكباراً له، واكتشفنا مساحات واسعة من الإعجاب به.

كان مما يلفت نظرنا في الشيخ مهابة شديدة لم يكن يتكلف رسومها، وحدة ذكاء تتلظى في نظراته بحيث نرى في لحظ عينيه مثل بارقة السيف، مع بساطة في المظهر، فكان بسيطاً في مظهره إلى درجة البذاذة، كان طبيعياً إلى أقصى حد، وكأنما كان يتكلّف ألاّ يتكلّف.

كان الشيخ شخصية علمية استثنائية في النمط العلمي المتتابع، ولم يوجد له نظير في الشخصيات العلمية المعروفة حيث اختط طريقاً غير مسلوك؛ فقد كان النمط العلمي خلال العقود المتعاقبة قبله معتنياً بالعقيدة والفقه ومشاركاً في غيرها.

أما الشيخ فكان إضافة نوعية من حيث التعمق في الأصول والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة، مع الإتقان لعلوم المنطق والجدل ونحوها من العلوم التي لم تكن رائجة في المحيط العلمي آنذاك.

كان الشيخ استثنائياً في ذلك؛ كما كان الشيخ ابن باز -رحمه الله- استثنائياً من حيث توجهه إلى الصناعة الحديثية والاجتهاد الفقهي.

درس الشيخ على علماء كثر، ولكنه احتفى بشخصيتين علميتين وافدتين على المنطقة هما: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ عبد الرزاق عفيفي، فتميز من بين كل من أخذ عنهما بامتصاصه أخص علومهم وهو العمق المعرفي للأصول والمنطق والجدل، حتى إن الشيخ عبد الرزاق عفيفي قال: لم يستفد أحد مني مثله، وقال مثلها الشيخ الأمين الشنقيطي.

وقد تجاوزت علاقته بالشيخ الأمين الشنقيطي علاقة الطالب بشيخه على مقاعد الدارسة إلى زيارات منتظمة إلى الشيخ الأمين في بيته، ويظهر مما يحكيه عنها أن الشيخ كان حفياً به، فقد كان الشيخ الشنقيطي متقلّلاً من الدنيا، وكان له وطاء يجلس عليه في بيته، فإذا أتاه من يختصه مدّ له طرف الوطاء، وقد كان الشيخ ممن يمدّ له هذا الوطاء، ويقرب في الجلوس عليه.

ولم يكن يتردد على الشيخ الأمين للقراءة في كتاب، ولكنه يزوره للمذاكرة في مسائل يختارها، ويبدو أن الشيخ الأمين أدرك من هذه المذاكرة إشراق عبقرية علمية أغرته أن يفتح للشيخ خزائنه العقلية.

تميز الشيخ بهذا التكوين العلمي الفريد واستوعبه وتفاعل معه، وظهر أثر ذلك في أدائه العلمي فلم يكن في دروسه شارحاً يعرض المسائل، ولكن فارس يفترع حقائقها، ويظهر ذلك في أناته في الكلام إذا تحدث، بحيث تشعر أنه يمضغ الكلمة في عقله قبل أن يلفظها إلى مستمعيه، ويظهر ذلك من تسلسل الفكرة إذا عرضها، فيعرض المسألة أو الفتوى متدرجاً من القاعدة الكلية إلى القاعدة الجزئية، إلى أن يصل إلى النتيجة الحكمية، ثم إنه كرس هذه المنهجية حين شارك في التدريس، واستطاع إحلالها بعد ذلك في الحياة العلمية في الدراسات العليا في كلية الشريعة، فكانت مشاركته إضافة نوعية أوجدت مساراً متميزاً للدراسات الأصولية الفقهية، وأصبحت هذه العلوم حاضرة في التكوين العلمي للمتخصصين في الدارسات الفقهية والأصولية فحضرت علوم تخريج الفروع على الأصول، والأشباه والنظائر، والجدل على طريقة الفقهاء، ومقاصد الشريعة، وكان هذا أحد منجزاته العلمية المباركة.

عاش الشيخ محباً للعلم مدمناً للعطاء العلمي، فلم يكن زخم العمل الوظيفي المرهق في رئاسة الإفتاء يعوقه عن المشاركة في التدريس في الدراسات العليا في كلية الشريعة، ثم يضيف إلى ذلك التدريس لنخبة متميزة من الطلبة في المسجد، ثم يضيف إلى ذلك التدريس عبر الهاتف للمراكز الإسلامية في أوروبا.

لقد كان يؤدي التدريس بلياقة عالية وكأنما يجد نفسه في هذا العمل، ويجدّد طاقته في هذا العطاء.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير