البيت وهذه الحكاية عندي موضوعة لأن أبا تمام كان عارفا بالشعر حتى إنه قال: لم أنظم
شعرا حتى حفظت سبعة عشر ديوانا للنساء خاصة دون الرجال وما كان يخفى عنه أن هذا
المعنى ليس لأبي نواس وإنما هو مأخوذ من قول جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم حسبت الناس كلهم غضابا
إلا أن أبا نواس زاد زيادة حسنة وذاك أن جريرا جعل الناس كلهم بني تميم وأبا نواس جعل
العالم كله في واحد وذلك أبلغ.
ومما ينتظم في هذا السلك قول الفرزدق:
علام تلفتين وأنت تحتي وخير الناس كلهم أمامي
متى تأتي الرصافة تستريحي من الأنساع والدبر الدوامي
أخذه أبو نواس فصار أملك به وأحسن فيه غاية الإحسان فقال:
وإذا المطي بنا بلغن محمدا فظهورهن على الرجال حرام
فالفرزدق قال " تستريحي من الأنساع والدبر الدوامي " وليست استراحتها بمانعة من معاودة
إتعابها مرة أخرى: وأما أبو نواس فإنه حرم ظهورهن على الرجال: أي أنها تعفى من السفر إعفاء مستمرا ولا شك أن أبا نواس لم يتنبه لهذه الزيادة إلا من فعل العرب في السائبة والبحيرة.
وعلى هذا الأسلوب ورد قول المتنبي:
وملومة زرد ثوبها ولكنه بالقنا مخمل
أخذه من أبي نواس في قوله:
أمام خميس أرجون كأنه قميص محوك من قنا وجياد
فزاد أبو الطيب زيادة صار بها أحق من أبي نواس بهذا المعنى.
وكذلك قال أبو الطيب المتنبي:
وإن جاد قبلك قوم مضوا فإنك في الكرم الأول
فأخذته أنا وزدت عليه فقلت:
أنت في الجود أول وقضى الله بألا يرى لك الدهر ثان
وهذا النوع من السرقات قليل الوقوع بالنسبة إلى غيره.
الضرب السابع من السلخ: وهو أن يؤخذ المعنى فيكسى عبارة أحسن من العبارة الأولى.
وهذا هو المحمود الذي يخرج به حسنه عن باب السرقة فمن ذلك قول أبي تمام:
أخذه البحتري فقال:
إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعي
ومن هذا الأسلوب قولهما أيضا فقال أبو تمام:
إن الكرام كثير في البلاد وإن قلوا كما غيرهم قلوا وإن كثروا
وقال البحتري:
قل للكرام فصار يكثر مدهم ولقد يقل الشيء حتى يكثرا
وعلى هذا النحو ورد قول أبي نواس:
يدل على ما في الضمير من الفتى تقلب عينيه إلى شخص من يهوى
أخذه أبو الطيب المتنبي فقال:
وإذا خامر الهوى قلب صب فعليه لكل عين دليل
ومما ينتظم في هذا السلك قول أبي الطيب المتنبي:
إذا ما ازددت من بعد التناهي فقد وقع انتقاصي في ازدياد
أخذه ابن نباتة السعدي فقال:
إذا كان نقصان الفتى من تمامه فكل صحيح في الأنام عليل
وما كلفة البدر المنير قديمة ولكنها في وجهه أثر اللطم
أخذه الشاعر المعروف بالقيسراني فقال:
وأهوى التي أهوى لها البدر ساجدا ألست ترى في وجه أثر التراب
وكذلك قول ابن الرومي:
إذا شنئت عين امريء شيب نفسه فعين سواه بالنشاءة أجدر
أخذه من تأخر عنه فقال:
إذا كان شيبي بغيضا إلي فكيف يكون إليها حبيبا
ومما ينخرط في هذا السلك قول بعضهم:
مخصرة الأوساط زانت عقودها بأحسن مما زينتها عقودها
أخذه أبو تمام فقال:
كأن عليها كل عقد ملاحة وحسنا وإن أضحت وأمست بلا عقد
ثم أخذه البحتري فقال:
إذا أطفأ الياقوت إشراق وجهها فإن عناء ما توخت عقودها
أمثال هذا كثيرة وفيما أوردناه مقنع.
وذلك من أحسن السرقات لما فيه من الدلالة على بسطة الناظم في القول وسعة باعه في
البلاغة فمن ذلك قول بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
أخذه سلم الخاسر وكان تلميذه فقال:
من راقب الناس مات غماً وفاز باللذة الجسور
فبين البيتين لفظتان في التأليف
ومن هذا الأسلوب قول أبي تمام:
برزت في طلب المعالي واحداً فيها تسير مغوراً ومنجداً
عجب بأنك سالم في وحشة في غاية ما زلت فيها مفرداً
أخذه ابن الرومي فقال:
غربته الخلائق الزهر في النا - س وما أوحشته بالتغريب
وكذلك ورد قول أبي نواس:
وكلت بالدهر غير غافلة من جود كفك تأسو كل ما جرحا
أخذه ابن الرومي فقال:
وعلى هذا ورد قول ابن الرومي:
كأني أستدني بك ابن حنية إذا النزع أدناه من الصدر أبعدا
أخذه بعض شعراء الشام وهو ابن قسيم الحموي فقال:
فهو كالسهم كلما زدته منك دنوا بالنزع زادك بعدا
ولقيت جماعة من الأدباء بالشام ووجدتهم يزعمون أن ابن قسيم هو الذي ابتدع هذا المعنى
وليس كذلك وإنما هو لابن الرومي.
ومما يجري هذا المجرى قول أبي العتاهية:
¥