وريع له جيش العدو وما مشى وجاشت له الحرب الضروس وما تغلي
فتأمل أيها الناظم إلى ما صنع هذان الشاعران في هذا المقصد الواحد وكيف هام كل واحد
منهما في واد منه مع اتفاقهما في بعض معانيه.
وسأبين لك ما اتفقا فيه وما اختلفا وأذكر الفاضل من المفضول فأقول:
أما الذي اتفقا فيه فإن أبا تمام قال:
بمولودهم صمت اللسان كغيره ولكن في أعطافه منطق الفضل
فأتى بالمعنى الذي أتى به أبو تمام وزاد عليه بالصناعة اللفظية وهي المطابقة في قوله " صمت
اللسان " و " منطق الفصل ".
وقال أبو تمام:
نجمان شاء الله ألا يطلعا إلا ارتداد الطرف حتى يأفلا
وقال أبو الطيب:
بدا وله وعد السحابة بالروى وصد وفينا غلة البلد المحل
فوافقه في المعنى وزاد عليه بقوله:
وصد فينا غلة البلد المحل
لأنه بين قدر حاجتهم إلى وجوده وانتفاعهم بحياته.
وأما ما اختلفا فيه فإن أبا الطيب أشعر فيه من أبي تمام أيضا وذاك أن معناه أمتن من معناه
ومبناه أحكم من مبناه وربما أكبر هذا القول جماعة من المقلدين الذين يقفون مع شبهة الزمان
وقدمه لا مع فضيلة القول وتقدمه وأبو تمام وإن كان أشعر عندي من أبي الطيب فإن أبا
الطيب أشهر منه في هذا الموضع وبيان ذلك أنه قد تقدم على ما اتفقا فيه من المعنى وأما
عزاءك سيف الدولة المقتدى به فإنك نصل والشدائد للنصل
وهذا البيت بمفرده خير من بيتي أبي تمام اللذين هما:
إن ترز في طرفي نهار واحد رزأين هاجا لوعة وبلابلا
فالثقل ليس مضاعفا لمطية إلا إذا ما كان وهما بازلا
فإن قول أبي الطيب " والشدائد للنصل " أكرم لفظا ومعنى من قول أبي تمام:
إن الثقل يضاعف من المطايا وقوله أيضا:
تخون المنايا عهده في سليله وتنصره بين الفوارس والرجل
وهذا أشرف من بيتي أبي تمام اللذين هما:
لا غرو إن فننان من عيدانه لقيا حماما للبرية آكلا
إن الأشاء إذا أصاب مشذب منه اتمهل ذرا وأث أسافلا
وكذلك قال أبو الطيب:
ألست من القوم الذين من رماحهم نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل
تسليهم علياؤهم عن مصابهم ويشغلهم كسب الثناء عن الشغل
إلا مواعظ قادها لك سمحة إسجاح لبك سامعا أو قائلا
واعلم أن التفضيل بين المعنيين المتفقين أيسر خطبا من التفضيل بين المعنيين المختلفين.
وقد ذهب قوم إلى منع المفاضلة بين المعنيين المختلفين واحتجوا على ذلك بأن قالوا: المفاضلة
بين الكلامين لا تكون إلا باشتراكهما في المعنى فإن اعتبار التأليف في نظم الألفاظ لا يكون إلا
باعتبار المعاني المندرجة تحتها فما لم يكن بني الكلامين اشترك في المعنى حتى يعلم مواقع النظم في قوة ذلك المعنى أو ضعفه أو اتساق ذلك اللفظ أو اضطرابه وإلا فكل كلام له تأليف يخصه بحسب المعنى المندرج تحته وهذا مثل قولنا: العسل أحلى من الخل فإنه ليس في الخل حلاوة حتى تقاس حلاوة العسل عليها.
وهذا القول فاسد فإنه لو كان ما ذهب إليه هؤلاء من منع المفاضلة حقا لوجب أن تسقط
التفرقة بين جيد الكلام ورديئه وحسنه وقبيحه وهذا محال وإنما خفي عليهم ذلك لأنهم لم
ينظروا إلى الأصل الذي تقع المفاضلة فيه سواء اتفقت المعاني أو اختلفت ومن ههنا وقع لهم
الغلط. وسأبين ذلك فأقول: من المعلوم أن الكلام لا يختص بمزية من الحسن حتى تتصف ألفاظه ومعانيه بوصفين هما الفصاحة والبلاغة فثبت بهذا أن النظر إنما هو في هذين الوصفين اللذين هما الأصل في المفاضلة بين الألفاظ والمعاني على اتفاقهما واختلافهام فمتى وجدا في أحد الكلامين دون الآخر أو كانا أخص به من الآخر حكم له بالفضل.
وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج في تفضيل الشعر أشياء تتضمن خبطا كثيرا وهو مروي
عن علماء العربية لكن عذرتهم في ذلك فإن معرفة الفصاحة والبلاغة شيء خلاف معرفة
النحو والإعراب.
فمما وقفت عليه أنه سئل أبو عمرو بن العلاء عن الأخطل فقال: لو أدرك يوما واحدا من
الجاهلية ما قدمت عليه أحدا وهذا تفضيل بالأعصار لا بالأشعار وفيه ما فيه ولولا أن أبا
عمرو عندي بالمكان العلي لبسطت لساني في هذا الموضع.
وسئل جرير عن نفسه وعن الفرزدق والأخطل فقال أما الفرزدق ففي يده نبعة من الشعر وهو
قابض عليها وأما الأخطل فأشدنا اجتراء وأرمانا للقرائض وأما أنا فمدينة الشعر.
وهذا القول قول إقناعي لا يحصل منه على تحقيق لكنه أقرب حالا مما روي عن أبي عمرو بن العلاء.
وسئل الأخطل عن أشعر الناس فقال: الذي إذا مدح رفع وإذا هجا وضع فقيل: فمن ذاك
قال: الأعشى قيل: ثم من قال: طرفة وهذا قول فيه بعض التحقيق إذ ليس كل من رفع
بمدحه ووضع بهجائه كان أشعر الناس لأن المعاني الشعرية كثيرة والمدح والهجاء منها.
وسئل الشريف الرضي عن أبي تمام وعن البحتري وعن أبي الطيب فقال: أما أبو تمام فخطيب
منبر وأما البحتري فواصف جؤذر وأما المتنبي فقاتل عسكر وهذا كلام حسن واقع في موقعه
فإنه وصف كلا منهم بما فيه من غير تفصيل
ويروى عن بشار أنه وصف نفسه بجودة الشعر والتقدم على غيره فقيل له: ولم ذاك فقال:
لأني نظمت اثني عشر ألف قصيدة وما تخلو واحدة منهن من بيت واحد جيد فيكون لي
حينئذ اثنا عشر ألف بيت وقد تأملت هذا القول فوجدته على بشار لا له لأن باقلا الذي
يضرب به المثل في العي لو نظم قصيدا لما خلا من بيت واحد جيد ومن الذي ينظم قصيدا
واحدا من الشعر ولا يسلم منه بيت واحد لكن كان الأولى ببشار أن قال: لي اثنتا عشرة ألف
قصيدة ليس واحدة منهن إلا وجيدها أكثر من رديئها وليس في واحدة منهن ما يسقط فإنه لو
قال ذلك وكان محقا لاستحق التقدم على الشعراء ومع هذا فقد وصل إلي ما في أيدي الناس من
شعره مقصدا ومقطعا فما وجدته بتلك الغاية التي ادعاها لكن وجدت جيده قليلا بالنسبة إلى
رديئه وتندر له الأبيات اليسيرة.
¥