وبدأت الحرب عام 1948 م, ودخلت الجيوش العربية إلى فلسطين, وهبَّ الشعب الجزائري يناصر فلسطين, ففتح باب التطوع لتحريرها, ونظمت الحملات لجمع التبرعات لمساعدة الثوار, ومقاطعة البضائع اليهودية, وأنشئت بعض اللجان للدفاع عن حقوقها (23) , ورغم الحواجز التي كانت تفصل الجزائر عن المشرق العربي, وعن فلسطين بالذات, كانت قلوب الجزائريين تخفق بحب فلسطين ومشاعرهم متألمة تحمل من الاشفاق على الشعب الشقيق بقدر ما تحمل من الإعجاب ببطولات المجاهدين. " ولا نقول جديدًا اذا ما سجلنا بأنَّ الكثيرين من الشعب الجزائري أثناء هذه الحرب خرجوا يَمشون على الأقدام محاولين تخطي هذه الحواجز, فمنهم من وصل, ومنهم من تلقفته سجون الاستعمار ومعتقلاته بليبيا تحت الحكم الإيطالي, أو في سجون تونس والجزائر تحت الاستعمار الفرنسي, قبل أن يصلوا إلى فلسطين " (24).
وقد شبَّه الشاعر محمد جريدي هؤلاء الجزائريين الذين لم يتمكنوا من تخطي هذه الحواجز والوصول إلى فلسطين للمشاركة في المعاركة المقدسة بالبنوة التي ترى الأمومة ملطخة في دمائها ولا تملك إلى نصرتِهَا سبيلا, قيلتمس الشاعر المغفرة من الأم الجريحة فلسطين لأبنائها في الجزائر, فيقول:
فَلَسْطينُ, إنِّي الابْنُ والابْنُ طائِعُ فَهَا أَنَذَا أعْصي, فَهَلْ فيكِ غُفْرانُ
فَإِنَّ صُدُودِي عَنْ حِمَاكِ جِنَايَةٌ وَإِنَّ قُعُودِي عَنْ فِدَاكِ لَعِصْيانُ
فَلَسْطينُ, لا تَأْسى لَغَيْبِي فَإِنَّني وَإن غِبْتُ, بِالحِرْمَانِ مِنْكَ لاسيانُ
وَإنْ فَقَدَتْ رِجْلي رَكَائِبَ لِلْفِدَا فَلَيْسَ لإحْسَاسِي وشِعْري فُقْدانُ
فَإِنَّ إِذَا رُمْنَا لِأَرْضِكِ سفْرةً يُعارِضُنَا بِالْمَنْعِ والرَّدْع ِ طُغْيانُ
وإِنْ رامَ صهيونُ لِغَزْوكِ هِجْرةً تُفْتَحُ لَهُمْ في الْجَوِّ والْبَرِّ بِيبَانُ
فَها هُوَ إيِمَانِي فِداكِ ونَخْوتي فَمَاذَا عَسَى يُجْدِيهم فِيكِ حِرْمانُ
وَهَمُّكِ هَمِّي يَا فَلسْطِينُ فاصْبري فَإنَّ اهْتِياجَ الْمَوْج تُفْنِيهِ شَطْآنُ
ولَسْتُ لِبَحْرِ الظُّلِم إلاَّ شَواطِئًا وَلَيْسَ لِمَوْجِ الظُّلِمْ بَعْدَكِ طُغْيانُ (25)
أما شاعر الثورة الجزائرية, وشاعر وحدة المغرب العربي الكبير والأمة العربية مفدي زكرياء (26) , فقد اعتبر العدوان على فلسطين اعتداء على العروبة كُلّها, وضياع فلسطين مسؤولية العرب جميعًا - لا الفلسطينيين وحدهم - فقد باعوها وانحدروا بِهَا للهاوية وهم في غمرة سكر, ففي الذكرى الثالثة عشر لتقسيم فلسطين كتب قصيدة شعرية طويلة بعنوان: " فلسطين على الصليب " في شكل حوار بين الشاعر وفلسطين والعرب, وسنلاحظ بوضوح " الصراحة الجارحة, والنقد اللاذغ الهادف إلى تصحيح الأخطاء, ويطغى عليه أسلوب التحليل واستقراء الأوضاع, وتحديد الأسباب, وإقتراح الحلول بعيدًا عن ترديد الشعرات الرنانة الجوفاء " (27) , فهو يدق ناقوس خطر الاحتلال الصهيوني لفلسطين, ويحث على الجهاد, وعلى ضم الصفوف لمواجهة العدو, يقول:
أُناديكِ, في الصَّرصَرِ العاتِيَهْ وبَيْنَ قَواصِفِها الذّارِيَهْ
وأَدْعوكِ, بَيْنَ أزيزِ الوَغَى وبَيْنَ جَماجِمِها الجاثِيَهْ
وأَذْكُر جُرْحَكِ, في حَرْبِنَا وفي ثَوْرةِ المغربِ القانِيَهْ
فَلَسْطِينُ .. يا مهبطَ الأنْبيأ ويا قِبْلَةَ العُرْبِ الثانِيَهْ
ويا حُجَّةَ اللهِ في أرْضِه ويا هِبَة الأزَلِ, السامِيَهْ
فَلَسطينُ .. والعُرْبُ في سُكْرَةِ قد إنْحَدَرُوا بِكِ لِلهاويَهْ!
رَماكِ الزّمانُ بِكُلّ لَئيمٍ زَنيمٍ, مِنَ الْفِئَةِ الباغِيَهْ
وَصَبَّ بِكِ الغَرْبُ أقْذَارَهُ وَرِجْسَ نِفَايَاتِهِ الْباقِيَهْ
وحَطَّ ابنُ (صهيونَ) أنْذَالَهُ بِأَرْضِكِ, آمِرةً ناهِيَهْ (28)
ويستطرد الشاعر في تسليط الأضواء على ما آلت إليه فلسطين " فقد انقلبت الأوضاع, وذل العزيز, وعزَّ الذليل, و أصبحت فلسطين تبكي, وما يبكيها إلاَّ الذين كانوا قد اتخذوا حائطا يتباكون فيه ويستدرون عطف الناس " (29):
بكيتِ, فَلَسْطِينُ, في حَائطٍ بِهِ - قَبْلُ - قَدْ كانتِ الْبَاكِيَهْ
فَيالَكَ مِنْ مَعْبَدٍ نَجَّسُوا حنَاياهُ بِالسُّوْءَةِ البادِيَهْ
وَيَالَكَ مِنْ قِبْلَةٍ كَدَّسُوا بِمِحْربِهَا الجيفَ البالِيَهْ
وَيَالَكَ مِنْ حَرمٍ آمِنٍ جيَّاعُ ابنِ آوَى بِهَا عَاوِيَهْ (30)
¥