يحرص ذو الرمة على اختيار الأوضاع الذي يعرض فيه صورته الفنية، وانتقاء الزوايا التي تبرزها في أجمل مظاهرها وأبهى مجاليها، وتظهر براعته الفائقة في اختيار الزوايا وانتقاء الأوضاع في العديد من قصائده، ومنها قوله:
برّاقة الجيدِ واللبات واضحةٌ كأنها ظبيةٌ أفضى بها لَبَبُ
بين النهارِ وبين الليلِ من عقدٍ على جوانبه الأسباطُ والهَدَبُ
فهو يتخير لها هذا الوضع الذي يبرزها في أجمل حالاتها، حين تخرج من بين كثبان الرمال إلى الفضاء العريض حيث تنتشر ضروبٌ من النبات والشجر، وقد اخذ الغروب يخلع على الصحراء أرديته الملونة، ويسكب فوقها أضواءه الرقيقة الحالمة، وقد كان حريصا في أكثر صورة من صوره التي رسمها للحيوان في الصحراء على أن يسجل تغير الوضع مع حركة الحيوان الدائبة المستمرة.
لقد برز اللون كعنصر هام في لوحات ذي الرمة الفنية، ووسيلة أساسية من وسائل التعبير الفني فيها، وقد كان عميق الإحساس بالألوان المختلفة التي يقع عليها بصره، بارعا كل البراعة في نقلها إلى صوره، ومن ذلك قوله:
وأرضِ خلاءٍ تَسحلُ الريحُ مَتنها كساها سوادُ الليلِ أرديةً خُضرا
وهنا تتراءى له أردية خضراء يخلعها الليل على الصحراء، وقد كان التعبير باللون من أهم وسائل التعبير عنده، وقد انتشرت الألوان في ديوانه انتشارا واضحا، فلكل صورة ألوانها الخاصة بها، ولكل عنصر من عناصر الصورة لونه المميز له، وقد حرص ذو الرمة على تسجيلها في شعره دون تعقيد مستعينا بذوقه الرفيع، وحسّه العميق باللون.
لقد كان لذي الرمة قدرة فائقة على اختيار اللون الملائم لكل صورة من صوره، وقد استخدم ألوانا مركبة عن طريق المزج بين الألوان الأصلية المعروفة، كما قام بإيراد أكثر من لون واحد في الصورة الواحدة، ومن ذلك صورة أضواء الشفق المتعددة الألوان حين تختلط في الأفق بظلمات المساء الزاحفة في وقت الغروب، وقد لجأ إلى مجموعة ألوان قوس قزح للتعبير عنها:
فلما بدا في الليل ضوءٌ كأنّه وإياه قوس المُزنِ ولّى ظلالُها
وقد عمد ذو الرمة إلى الألوان من اجل تجسيم المعنى، وإشاعة الحياة فيه، ونقله من الدائرة المعنوية إلى الدائرة الحسية، حيث تشترك الحواس في التعرف عليها.
أما الأمر الثاني الذي حرص عليه ذو الرمة، واتخذه عنصرا أساسيا في التصوير الفني، فقد كان الصوت، حيث قام بتسجيل الأصوات في لوحاته وخاصة فيما يتعلق بالصحراء، أصوات حيواناتها ومظاهرها الطبيعية، فيسجل الأصوات التي تترامى إلى سمعه، وهي ظاهرة يتفوق فيها على غيره من الشعراء، مما ساهم في طبع قصائده بطابع واقعي، إضافة إلى إشاعة جوٍّ من الحياة الصحراوية بحيث يجسم الإحساس بها:
ونادى به "ماءٍ" إذا أثار ثورةً أصَيبِحُ أعلى نُقبَةِ اللونِ اطرقُ
تريعُ له أمُّ كأن سَرَاتها إذا انجابَ عن صحرائها الليلُ يَلمَقُ
ونلمح عنصر الصوت هنا في كلمة "ماء" وهي عبارة عن صوت النداء لولد الظبية، وهو "الخِشف"، فيحكي هذا الصوت حكاية دقيقة جعلت بعض الرواة يشترطون كسر الميم منه وإمالة الألف الممدودة بين الكسر والفتح.
لقد سجل ذو الرمة أصوات الكثير من المؤثرات فيما حوله، فسجل صوت الرعد، وصوت الظباء، والإبل، والحمار الوحشي، ووحيد القرن، ونداء الناس، وترانيم النصارى في صلواتهم، وفحيح الأفاعي، وصوت الرحى، وأصوات البوم الكئيبة، وأصوات القطا، وصوت المياه حين تُصب في قعر جرن أو بئر.
برز إلى جانب عنصري اللون والصوت عنصر ثالث لا يقل أهمية عنهما، وهو عنصر الحركة، وهو العنصر الذي تتحول معه الصورة من صورة جامدة إلى صورة حية مفعمة بالحيوية، فقد قام بتحريك الطبيعة، بحيوانها وجبالها وهضابها وسرابها وشجرها ونهارها وليلها ونجومها وكواكبها، وكل ما يقع على بصره من مظاهر الطبيعة في الصحراء التي يتحرك فوقها في شعره، فيرى الجبال تسير كأنها السراب، أو تختفي وتظهر، أو كأنها تتحرك كشخص اسود، أو كأنها ترقص وتتمايل:
وساجرةِ السرابِ من المَوَامي تَرَقّصُ في عساقلها الأُرومُ
ولقد جعل ذو الرمة من السراب جزءا مهما في الحركة في صوره، فاتخذه وسيلة أساسية لتحريك الجبال، كما جعله مغيرا لهيئة ما في الصحراء من أشياء، وذلك لأنه يبدو أمام العين متحركا، وذلك لطبيعة فيه من الخالق سبحانه تعالى.
¥