الحقيقة أن الموضوع شغلني، وأنا أذكر من خلال قراءتي أن مصادر العلامة الطاهر في الاعتقاد أشعرية، ولا أذكر له اعتمادًا على كتب الاعتقاد التي تنحو إلى الاستدلال بالكتاب والسنة ككتاب التوحيد للبخاري وكتابه المفرد في خلق أفعال العباد وغيرها من كتب العقائد، ولا رأيته استفاد من كتب المتأخرين من المتبعين للسلف الذين بينوا عقائدهم وأوضحوا ما كانوا عليه من الإثبات واعتماد ما جاء في الكتاب والسنة لا ما جاء عن علماء الكلام الذين ذمهم الشافعي، ونظَّار المذهب الأشعري المتأخرون دخلوا في علم الكلام لكثرة ردهم على المعتزلة.
والعلامة الطاهر علم لا يشق له غبار لكنه ليس معصومًا، وليس بيان ما وقع فيه من الخطأ مشكلاً، لكن لا يكون خطؤه سببا في عدم الاعتداد به والاستفادة منه، فهذا الأسلوب لا يكون إلا من غلب عليه جهله في هذا السبيل.
وهو قد سار على طريقة الأشاعرة في العموم الأغلب من الاعتقاد، وإن كان محررا متحررا لا يلتزم هذا المذهب وهو يرى فيه الخطأ، بل حاشاه وحاشا عقلاء المسلمين من أفذاذ علمائهم أن يكونوا كذلك، فالأذكياء المعروفون: الباقلاني والجويني والرازي والشهرستاني وغيرهم، كل هؤلاء كانوا يرون التنزيه ويغلبون جانبه حتى خالفوا بعض ظواهر النصوص، وهؤلاء ـ إن ظهر لأحدنا خطؤهم في مسألة عقدية ـ يجب حفظ حقوقهم، والاعتراف بفضلهم، والاستفادة من تراثهم، وترك ما يظهر لنا من خطئهم شأننا في بحث ذلك كشأننا في أي مسألة علمية من مسائل الفقه وغيرها.
ولا يضيق أحدنا بالاختلاف، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم لم تُعصم منه، لكن أين أدب الإسلام في التعامل بين المسلمين؟!
وقد جمعت لكم بعض النصوص لعلها تفيد في تبين شيء من المسألة التي نظرتم إليها، مع أنني ألاحظ أن الحديث عن العلامة الطاهر قد انحنى إلى مسار الاختلاف بدل مسار الاتفاق، وهو أن تفسيره تفسير عظيم، وقد شهد له بذلك المتخصصون، فلماذا لا نعود إلى تبيين مزايا هذا الكتاب بدل النظر في المثالب يا أولي الالباب.
1 ـ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
وفيه أيضاً تمثيلية تبعية، وهذا ينظر إلى قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً} [الأنعام: 125].
فحصل في الآية أربع استعارات وثلاثة محسنات من البديع وأسلوب بياني، وحجة قائمة، وهذا إعجاز بديع.
ووُصف الضلال بالمبين دون وصف الهدى بالمبين لأن حقيقة الهدى مقول عليها بالتواطؤ وهو معنى قول أصحابنا الأشاعرة: الإِيمان لا يزيد ولا ينقص في ذاته وإنما زيادته بكثرة الطاعات، وأما الكفر فيكون بإنكار بعض المعتقدات وبإنكار جميعها وكل ذلك يصدق عليه الكفر. ولذلك قيل كفرٌ دون كفر، فوصف كفرهم بأنه أشدّ الكفر، فإن المبين هو الواضح في جنسه البالغ غاية حده.
2 ـ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
فأمّا جمهورُ أهل السنّة، الذين تترجم عن أقوالهم طريقة الأشعري، فعمّموا وقالوا: لا يثبت شيء من الواجبات، ولا مؤاخذة على ترك أو فعل إلاّ ببعثة الرسل حتّى معرفة الله تعالى، واستدلّوا بهذه الآية وغيرها: مثل {وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15] وبالإجماع. وفي دعوى الإجماع نظر، وفي الاستدلال به على أصل من أصول الدين نظر آخر، وفي الاستدلال بالآيات، وهي ظواهر، على أصل من أصول الدين نظر ثالث، إلاّ أن يقال: إنَّها تكاثرت كثرة أبلغتها إلى مرتبة القطع، وهذا أيضاً مجال للنظر، وهم ملجَئُون إلى تأويل هذه الآية، لأنّهم قائلون بمؤاخذة أهل الفترة على إشراكهم بالله. والجواب أن يقال: إنّ الرسل في الآية كلٌّ إفْرادِي، صادق بالرسول الواحد، وهو يختلف باختلاف الدعوة. فأمّا الدعوة إلى جملة الإيمان والتوحيد فَقد تقرّرت بالرسل الأوّلين، الّذين تقرّر من دعواتهم عند البشر وجوبُ الإيمان والتوحيد، وأمّا الدعوة إلى تفصيل الآيات والصفات وإلى فروع الشرائع، فهي تتقرّر بمجيء الرسل الذين يختصّون بأمم معروفة.
¥