ما ورد الوصف به مثل قوله: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] بالنسبة إلى مقامنا هذا، مع اتفاقهم على أنّ عدم العلم بتفصيل ذلك لا يقدح في عقيدة الإِيمان، فلما نبعَ في علماء الإِسلام تطلّب معرفة حقائق الأشياء وألْجأهُم البحثُ العلمي إلى التعمق في معاني القرآن ودقائق عباراته وخصوصيات بلاغته، لم يروا طريقة السلف مقنعة لأَفهام أهل العلم من الخَلف لأن طريقتهم في العلم طريقةُ تمحيص وهي اللائقة بعصرهم، وقارِن ذلك ما حدث في فرق الأمة الإِسلامية من النِحل الاعتقادية، وإلقاء شبه الملاحدة من المنتمين إلى الإسلام وغيرهم، وحَدَا بهم ذلك إلى الغوص والتعمق لإِقامة المعارف على أعمدة لا تقبل التزلزل، ولدفع شبه المتشككين ورد مطاعن الملحدين، فسلكوا مسالك الجمع بين المتعارضات من أقوال ومعان وإقرارِ كلِّ حقيقة في نصابها، وذلك بالتأويل الذي يقتضيه المقتضي ويعضده الدليل.
فسلكت جماعات مسالك التأويل الإِجمالي بأن يعتقدوا تلك المتشابهات على إجمالها ويوقنوا التنزيه عن ظواهرها ولكنهم لا يفصِّلون صَرفها عن ظواهرها بل يُجملون التأويل، وهذه الطائفة تُدعى السلفية لقرب طريقتها من طريقة السلف في المتشابهات، وهذه الجماعات متفاوتة في مقدار تأصيل أصولها تفاوتاً جعلها فرقاً: فمنهم الحنابلة، والظاهرية، الخوارج الأقدمون غير الذين التزموا طريقة المعتزلة.
ومنهم أهل السنة الذين كانوا قبل الأشعري مثل المالكية وأهل الحديث الذين تمسكوا بظواهر ما جاءت به الأخبار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم مع التقييد بأنها مؤوَّلة عن ظواهرها بوجه الإِجمال. وقد غلا قوم من الآخذين بالظاهر مثل الكَرامية والمشبهة فألحقوا بالصنف الأول.
ومنهم فِرق النُّظَّارين في التوفيق بين قواعد العلوم العقلية وبين ما جاءت به أقوال الكتاب والسنة وهؤلاء هم المعتزلة، والأشاعرة، والماتريدية.
فأقوالهم في رؤية أهل الجنة ربَّهم ناسجة على هذا المنوال:
فالسلف أثبتوها دون بحث، والمعتزلة نفوها وتأولوا الأدلة بنحو المجاز والاشتراك، وتقدير محذوف لمعارضتها الأصول القطعية عندهم فرجحوا ما رأوْه قطعياً وألْغَوْها.
والأشاعرة أثبتوها وراموا الاستدلال لها بأدلة تفيد القطع وتبطل قول المعتزلة ولكنهم لم يبلغوا من ذلك المبلغ المطلوب.
وما جاء به كل فريق من حجاج لم يكن سالماً من اتجاه نقوض ومُنُوع ومعارضات، وكذلك ما أثاره كل فريق على مخالفيه من معارضات لم يكن خالصاً من اتجاه مُنُوع مجردة أو مع المستندات، فطال الْأخذ والرد. ولم يحصل طائل ولا انتهى إلى حد.
ويحسن أن نفوض كيفيتها إلى علم الله تعالى كغيرها من المتشابه الراجع إلى شؤون الخالق تعالى.
وهذا معنى قول سلفنا: إنها رؤية بلا كيف وهي كلمة حق جامعة، وإن اشمأزّ منها المعتزلة.
هذا ما يتعلق بدلالة الآية على رؤية أهل الجنة ربهم، وأمّا ما يتعلق بأصل جواز رؤية الله تعالى فقد مضى القول فيها عند قوله تعالى: {قال لن تراني} في سورة الأعراف (143).
7 ـ قل هو الله أحد
وقد اصطلح علماء الكلام من أهل السنة على استخراج الصفات السلبية الربانية من معنى الأحدية لأنه إذا كان منفرداً بالإلهية كان مستغنياً عن المخصِّص بالإِيجاد لأنه لو افتقر إلى من يُوجده لكان من يوجده إلها أوَّلَ منه فلذلك كان وجود الله قديماً غير مسبوق بعدم ولا محتاج إلى مخصص بالوجُود بدَلاً عن العدم، وكان مستعيناً عن الإمداد بالوجود فكان باقياً، وكان غنياً عن غيره، وكان مخالفاً للحوادث وإلا لاحتاج مثلَها إلى المخصص فكان وصفه تعالى: ب {أحد} جامعاً للصفات السلبية. ومثلُ ذلك يُقال في مرادفه وهو وصف وَاحد.
واصطلحوا على أن أحدية الله أحدية واجبة كاملة، فالله تعالى واحد من جميع الوجوه، وعلى كل التقادير فليس لكُنْه الله كثرة أصلاً لا كثرة معنوية وهي تعدد المقوّمات من الأجناس والفصول التي تتقوم منها المواهي، ولا كثرةُ الأجزاء في الخارج التي تتقوم منها الأجسام. فأفاد وصف {أحد} أنه منزه عن الجنس والفصل والمادة والصورة، والأعراض والأبعاض، والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما ينافي الوحدة الكاملة كما إشار إليه ابن سينا.
وأسأل الله لنا وللعلامة ابن عاشور الفوز بالجنة.
ـ[أبو المهند]ــــــــ[09 Jan 2008, 03:04 م]ـ
الأخ الفاضل المستكشف أشكرك كثيرا على نقولك المفيدة المدلله على المراد.
أما الأخ الفاضل ابن جماعة فأقول له أشهد الله أني أحترم القيمة العلمية المستنيرة لما تطرح، ولكن هذه المرة ما أصاب قوسك الرمية، ومن حقك أن تتردد في جوابك عن معتقد الشيخ ابن عاشور وكذلك موقفه من المجاز في القرآن الكريم؛ لأن جوابك فعلا يستحق التريث والتردد كونك ستدخل عالم النوايا لمن يطرح السؤال، فشككت بقلمك في السائل حيث صورته بصورة متربص بعالم فاضل لا يشق له غبار.وكل ذلك لم يكن.
فالشيخ نحبه ونحب علمه برمته جملة و تفصيلا، لا نفرق بين عقيدته وبلاغته وشوارد ما كتب وجواهر ما خط يمينه ـ رحمه الله تعالى ـ وقد كنت في مرحلة الماجستير أعد خطة علمية ليكون تفسير ابن عاشور هو موضوع دراستي، لكنني وجدت بكلية البنات جامعة الأزهر من سبقني بدراسة منهج الشيخ، وفي كلية أ صول الدين بالقاهرة من سجل عن التحرير والتنوير، ومن شغفي بابن عاشور وولده العالم الجليل محمد الفاضل بن عاشور الذي كان عضوا علميا في مجمع البحوث بالأزهر ومات في حياة والده وله " التفسير ورجاله " تمت بيني وبين أسرة ابن عاشور بتونس مراسلات لازالت عندي عن الشيخ ولم تنشر بعد.
ومن هنا أقول لكم لقد أخطأ سمك الرمية عندما افترضت في السائل سوء النية، ولكن بتجرد شديد قد أجد في الشيخ ما لا تجده أنت مثلا، ومن هنا كان السؤال الذي لا زلت أكرره لذات المعرفة والعلم " ماذا عن معتقد الرجل، وعن وجود المجاز في كتابه؟
¥