تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما ما ذكره د. نعناعة بأن نزعة "التفسير العلمي" عند الغزالي والرازي لقصد التوفيق بين القرآن وما جد من العلوم (22)، وتابعه على هذا صاحب المقالات الثلاث؛ فهذا إسقاط لواقع الحال الذي نعيشه نحن من التخلف والكسل، على العصر الذهبي الذي كان العالم الإسلامي ينعم فيه بالعلوم ويصدرها للأمم الأخرى، والمتتبع لتاريخ العلوم يعلم ذلك، وإنما فكرة التوافق بين القرآن وما جد من العلم؛ ظهرت حديثاً في عصر التراجع العلمي وسيطرة الاستعمار والغزو الفكري في عالمنا الإسلامي (23)، وللرد على من ادعى التناقض بين العلم والدين تأثرأ بالثورة الأوربية على الكنيسة التي حرمت العلم، وأنها ما نهضت إلا بنبذ الدين والأخذ بالعلم، وتجلت فكرة التوافق واضحة على يد المنبهرين بالحضارة الأوربية والتقدم العلمي فيها، الذين ولوا وجوههم شطر أوربة؛ كالسيد أحمد خان (1314هـ) في الهند، وجمال الدين الأفغاني (1314هـ) وتلميذه الشيخ محمد عبده (1323هـ) في البلاد العربية – وليس الكواكبي الأول كما ذكر صاحب المقالات الثلاث -، وعزز ذلك الشيخ رشيد رضا (1354هـ) في نشره تفسير الشيخ محمد عبده في مجلة المنار.

فقد أوّل محمد عبده الطير الأبابيل بالجراثيم مثلاً، وأنكر رشيد رضا بعض المعجزات بحجة تقريب الفكرة للغرب (24)، وتبعهما على ذلك خلق كثير على شاكلتهم، وبدأ بذلك الانحراف في اتجاه التفسير العلمي من منهج الاستنباط والاستدلال، إلى منهج التطويع والتكلف والتمحل لإثبات العلوم من القرآن الكريم والرد على العلمانيين والقادمين من أوربا من الوفود، الداعين لرفض الدين بحجة التعارض بين العلم والدين، وتمثل هذا المنهج كاملاً في تفسير الشيخ طنطاوي جوهري يرحمه الله، فقد غالى الشيخ طنطاوي جوهري في ذلك كثيراً في تفسيره مع حسن المقصد منه رحمه الله، وحكّم النظريات العلمية والفلسفية في دلالات الآيات القرآنية، وقد أثر منهجه على الباحثين من بعده إلى يومنا هذا، مما دفع ببعض العلماء الأفاضل كالشيخ حسين الذهبي ومن تابعه أن ينكروا هذا العمل، واستدلوا بما استدل به الشاطبي.

ومع ذلك فقد وجدت تفاسير حوت اتجاه التفسير العلمي وتسخير العلوم الكونية في تفسير كتاب الله تعالى بمنهج علمي سليم بحسب القواعد المقررة في التفسير، كما فعل الشيخ سعيد النورسي، والشيخ جمال الدين القاسمي، والشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد بن الطاهر عاشور، ثم تبنت لجنة الشؤون الإسلامية في الأزهر إخراج التفسير المنتخب على هذا الاتجاه وفيه تعليقات لما يستنبط من العلوم من الآيات، ولا يبعد أن يوجد في عمل هؤلاء العلماء الأفاضل أخطاء اجتهادية، فالتفسير عمل بشري، يخطئ ويصيب، وكل عمل بما أوتيه من علم دون تعدٍّ.

الخاتمة:

إذن فدعوى احتواء القرآن للعلوم ليست مما انفرد به الغزالي، واستنباط العلوم وتسخيرها في فهم القرآن ليس بدعاً من الأمر قام به الغزالي والرازي بقصد تضليل الناس، وإنما هو منهج في التفسير من نشأته وسيبقى إلى يوم القيامة، ولا شك أن هناك تعسفاً وتمحلاً وتكلفاً من بعض المشتغلين بالتفسير العلمي أو الإعجاز العلمي، لأن دافعهم الحماسي والعاطفي للكتابة في هذا المجال بنية حسنة دون تمكن من العلوم الشرعية، أو من العلوم التي ليست من اختصاصهم أدى بهم لهذا المنزلق الخطير في الكلام في كتاب الله تعالى، لكن هذا لا يعني أن نعلن الحرب الضروس على منهج من مناهج التفسير؛ له أصل شرعي وأصل عملي؛ ونبدع ونضلل المشتغلين فيه جزافاً وتشفياً.

ومن عجائب كلام صاحب المقالات الثلاث قوله: (فليس بين علماء الأمة المعتدّ بهم في القرون المفضلة طبيب ولا فيزيائي ولا فلكي ولا فيلسوف، وكانوا يحصرون العلم والتعليم الديني في الاعتقاد والعبادات والمعاملات من الوحي في الكتاب والسنة وفقه السلف في نصوصهما، ولم يلتفت المسلمون إلى المهن والفنون التي ذكرها إلا بعد مرحلة الضعف والانبهار بالفكر اليوناني والاهتمام بترجمته ثم النّسج على منواله في الفكر المنسوب إلى الدين.)!!

هذا كلام من لم يعرف مفهوم العلم في القرآن والسنة، ولم يكن لديه دراية في تاريخ العلوم الإسلامية، والجواب عنه يحتاج إلى تعليم قائله مراحل تطور العلوم الإسلامية ولا يكفيه أسطر أو صفحات.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير