تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما الدليل الثالث فهو أن القرآن يعلن عن أهدافه بوضوح، بعيداً عن العبارات الاحتراسية الموارية للقصد، وبمنأى عن الالتواءات الأسلوبية المعتمة للخطاب، مما يجعله على درجة سامقة من البيان، ويجعل فهمه عملاً ميسوراً يتم عبر عرض الدلالات المستفادة من الألفاظ على المقاصد، للتأكد من أنها عين المراد. ومن هذه الأهداف المعلنة أن القرآن كتاب هداية، أمر الله بتلاوته وتدبره واتباعه، وهذا يجعل تعذر فهمه أمراً مستحيلاً؛ إذ لا يعقل أن يكون غرضه هداية العالمين، ومع ذلك لا يمكن لأحد أن يفهمه، خاصة وأن الامتثال فرع عن الفهم وفِقْه الخطاب. ومن هذه الأهداف أيضاً، أن القرآن نزل ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ومعلوم أن الحكم لا يكون فيصلا تقوم به الحجة، ولا قاطعاً يقبل التنفيذ، إلا إذا كان واضح الدلالة، وعليه فالاختلاف لا يرجع إلى أصل القرآن، بل هو وليد معطيات خارجية، كتلك التي ترجع إلى سلوكات الناس اتجاهه، التي تختلف باختلاف خلفياتهم. وبناء على ما سبق يتضح أن القرآن واضح، وأن القول بحاجته الذاتية إلى تفسير خطأ منهجي، فالتفسير لا يمكن أن يضيف إلى النص القرآني شيئاً، لأن كل العناصر البيانية ثاوية فيه، ولأنه النور الذي جعله الله تفسيراً للحياة والأحياء، "ومتى ما عمد الإنسان إلى النور ينيره وإلى الضوء يضيئه وإلى المفسر يفسره فقد قلب المنهج."

ولقائل أن يقول: إن ما يشكك في صحة هذا الأصل أمران اثنان، أحدهما ما يفيده ظاهر قوله تعالى: ?هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب? (آل عمران:7) ويفهم من ذلك أن القرآن يتضمن آيات متشابهة، لا سبيل لأحد إلى يتبين مدلولها لأنه مما استأثر الله بعلمه، ويترتب على ذلك، أن قدراً من القرآن مستحيل الإدراك، وما كانت هذه حاله، فلا يكون بيّناً ولا مبينا. أما الأمر الثاني الذي يعود على هذا الأصل بالنقض، فهو ما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: ?وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم? (النحل:44) من أن الله أوكل مهمة بيان القرآن إلى النبي عليه السلام، مرشداً إلى مكانته المركزية، التي تخول له توضيح مراد الله، وجاعلاً منه حلقة في الفهم غير ممكنة التجاوز. وفي ذلك إيذان بأن حاجة القرآن إلى التفسير ذاتية، طالما أن فهمه لا يمكن أن يتم من داخله، وفي غنى عن أي مبين خارجي؛ إذ لو كان الأمر بخلاف ذلك، لما كان للتعبير بلام التعليل في الآية وجه يُعتبر.

والواقع أن هذا الاعتراض لا ينقص من قيمة ذلك الأصل، وإمعان النظر في الآيتين يفضي إلى العدول عن ظاهرهما، والاطمئنان إلى أنه غير مراد. ففيما يخص آية التشابه، فهي لا تقوم دليلا على ما استشهد بها لأجله، لأسباب أهمها اثنان؛ أحدهما كون المتشابه - الذي يفترض أنه غامض وملتبس الدلالة وأن لا أحد غير الله قد اطلع على معناه- قليلاً جداً، بالمقارنة مع القدر المحكم الذي يمثل المعظم من آيات القرآن. ذلك أن آية آل عمران لما قابلت بين المحكم والمتشابه، صار من اللازم أن يفسر المتشابه بما يقابله، ويعضد ذلك أسلوب الآية وهو الجمع مع التقسيم، لأنه تعالى فرّق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال: ?هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات? (آل عمران:7) ويستفاد من هذا التقابل الماثل في قوله تعالى في المحكمات: ?هُنَّ أمُّ الكتاب وأُخَرُ متشابهات? أن المحكم كثير والمتشابه قليل، وتدل المحكمات بذلك على أنها "المعظم والجمهور وأم الشيء معظمه وعامته، كما قالوا أمّ الطريق بمعنى معظمه،" ويستفاد من هذا التقابل أيضاً أن المحكم أصل، وأن المتشابه فرع، لأن لفظ "أمّ" في الآية يعني الأصل أيضاً. وبإضافة هذا المعنى إلى الذي قبله، يظهر أن التشابه لا يقع في الأصول الكلية، وإنما يختص بالفروع الجزئية؛ إذ لو وقع في أصل من الأصول اشتباه، للزم سريانه في جميعها، لأن الأصول منوط بعضها ببعض في التفريع عليها، فكثيراً ما يكون التفريع على أصل، متوقفاً على أصل آخر. وبهذا الموجب لا يكون المحكم أُمّ الكتاب، ولكن الآية أفادت كونه كذلك، فدلّ هذا على

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير