تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أن المتشابه ليس أصلاً، وأنه لا يكون في شيء من الأصول. ولما كان المتشابه، الذي يفترض أنه يورث إشكالا وحيرة قليلاً، كان الالتباس المترتب عليه مثله في القلة أيضا، وبذلك فالتشابه لا ينافي ما يتصف به القرآن من وضوح وبيان، لأن قلته تزكي هذه الصفات وتؤكد أنها الأصل.

وإذا كان السبب الأول لبطلان الاعتراض على أصل البيان في القرآن، هو قلة المتشابه، وندرته الكمية، مما يفيد قلة نسبة الغموض، ومن ثم قلة الحاجة الذاتية إلى تفسير، فإن السبب الثاني، ومن خلال استناده إلى تحقيق مفهوم المتشابه في آية آل عمران، ينفي هذه الحاجة نفياً كلياً. ذلك أن مبعث التشابه في القرآن ليس احتمال اللفظ لمجموعة من المعاني وتردده بينها، أي أن التشابه لم ينشأ من ناحية الاختلاط والتردد في معاني اللفظ ومفهومه اللغوي، لأن الاتّباع المذكور في الآية ?فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله? (آل عمران:7) لا يكون، إلا إذا كان للفظ مفهوم لغوي يكون العمل به اتباعاً له. فالتشابه الذي وصف به القرآن هنا، نوع خاص، لابد فيه أن يكون قابلاً للاتباع، وهذه القابلية ناتجة عن وجود مفهوم لغوي معين للفظ، يكون العمل به اتباعاً له. وعلى هذا الأساس لا يكون التشابه حاصلاً من هذه الجهة؛ إذ لابد أن يكون للَّفظ المتشابه مفهوم لغوي معين، وإنما ينشأ التشابه من الاختلاط والالتباس في تجسيد الصورة الواقعية، والمصداق الخارجي لذلك المفهوم اللغوي.

وإذا كان هذا شأن المتشابه، تَبين أن الطريقة المثلى للتعامل معه، هي التسليم له، والإيمان به من غير خوض فيه وبحث عن مآله، لأن ذلك لا يتعلق به تكليف من جهة، ولا يؤدي من جهة أخرى إلا إلى إيقاظ الفتن. فإذا أخذنا مثلا قوله تعالى: ?الرحمن على العرش استوى? (طه:5) وجدنا لِلفظ الاستواء ظهوراً لغوياً معيناً يدل من خلاله على الاستقامة والاعتدال، ولكنه في الآن نفسه كلام متشابه، تبعاً لما ينتج عنه من لبس في تحديد صورة هذا الاستواء الواقعية، وتجسيد حقيقته الخارجية، على النحو الذي يتناسب مع الرحمن الذي ليس كمثله شيء. وفي مقابل المتشابه يأتي المحكم الذي ينصرف إلى ما تعينت دلالته، وأمكن تصوره. وعلى هذا الأساس ينتفي كل غموض ذاتي عن النص القرآني، وتبقى آياته بينة بنفسها، واضحة، ومقدوراً على الوصول إلى معناها، ومن ثم تكون الحاجة إلى التفسير، عائدة إلى المتلقي لا إلى أصل النص.

أما الآية الثانية فتفيد معنيين، لا يدل أي منهما على أن القرآن غيرُ بيّن بذاته، ومفتقر إلى دعم مِن مُبين خارجي، فقوله تعالى: ?وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم? (النحل:44) يفيد أن الرسول عليه السلام مباشر للبيان تبليغاً وتفسيراً؛ فهو يبين بسرده نص القرآنِ ما نُزل، وهو يبين بتفسيره، ما أشكل على المتلقين مما نُزل. وبمقتضى ذلك، فإن الآية تكرس وساطة النبي في عملية تلقي القرآن، جاعلة منه وسيطاً معرفياً يتولى أمر البيان التبليغي ووسيطاً منهجياً يتكفل بمهمة البيان التفسيري. ويزيد هذه الوساطة تأكيداً الإتيان بضمير المخاطب في قوله: ?وأنزلنا إليك?، ففيه إيماء من الله إلى تشريفه للرسول بمرتبة الوساطة بين الله والناس، بأن جعل الإنزال إليه ولم يقل إليكم أو إليهم. إذن فالبيان الموكول إلى النبي عليه السلام، هو بيان للفظ وللمعنى المستقى منه، وهو في الحالة الأولى بيان تبليغ وإخبار، وفي الحالة الثانية بيان تفسير وإظهار، ولا بد من تناول كل حالة بيانية بالتحليل والتفصيل، للتأكد من مدى حاجة القرآن أو غناه عن التفسير، وذلك عبر خطوتين منهجيتين اثنتين، تتمثل أولاهما في بحث وجه دلالة الآية على المعاني المستفادة منها، وتتمثل الثانية في بحث النهايات المعرفية التي تفضي إليها تلك المعاني، وعلاقتها بقدرة النص القرآني البيانية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير