تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن أول ما ينبغي التنبيه عليه، هو أن البيان الذي ذكره الله في الآية ?لتبين? وجعله غاية الإنزال، يُستعمل للدلالة على مجموعة من المعاني التي حفظت المعاجم اللغوية جملة منها، ويتطلب تعيين المراد من بينها الاحتكامَ إلى السياق، فهو الذي يعطي للكلمة شخصيتها المستقلة، ودلالتها النهائية، من خلال الكشف عن أبعاد العلاقات التي تربطها بما يجاورها، من كلمات داخل التركيب. ومن هذا المنطلق لزم الكشف عن مفهومين مفتاحيين في الآية، من شأنهما توضيح معنى البيان الموكول إلى النبي عليه السلام وهما ?الذكر? و?ما نزل إليهم?. وتدل اللفظة الأولى على القرآن بإجماع المفسرين، أما الجملة الثانية، فإكسابها معناها يتوقف على مدى قبولها النحوي وانسجامها وما يشكل معها جملة داخل السياق النصي، ذلك أنها تقتضي أن "ما صدق الموصول غيرُ الذكر المتقدم، والذي هو القرآن بإجماع المفسرين؛ إذ لو كان إياه لكان مقتضى الظاهر أن يقال لتبينه للناس. ولذا فالمراد بما نزل إليهم الشرائع والوعد والوعيد وغير ذلك مما أرسل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعل القرآن جامعاً له ومبيناً له ببليغ نظمه، ووفرة معانيه، فيكون في معنى قوله تعالى: ?ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء?. (النحل:89) وتم إسناد التبيين إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ هو مبلغ الناس هذا البيان." ومن هذا المنظور يكون البيان المقصود في الآية هو بيان التبليغ، ويكون القرآن في الآن نفسه كتاباً بيناً في نفسه، ومبيناً لما أراد الله من عباده امتثالَه والاتعاظ به، ومن ثم فلا دلالة في الآية من هذا الوجه على ما استدل بها لأجله، من افتقار كلام الله إلى تفسير وإيضاح.

غير أن تركيب الآية يسمح أيضا بتفسير ?ما نزل إليهم? على أنه عين الذكر المنزل، فيكون المعنى: أنزلنا إليك الذكر لتبينه للناس، أما استعماله للإظهار في مقام الإضمار، فهو لإفادة أن إنزال الذكر إلى النبي، هو إنزاله إلى الناس، كما في قوله تعالى: ?لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم? (الأنبياء:10). وإنما ذكره في هذه الآية مرتين للإيماء إلى التفاوت بين الإنزالين؛ إنزاله إلى النبي مباشرة، مع تخويله صلاحيات البيان، وإيضاح المعنى، وإنزاله إلى عامة الناس - لأن التعريف في ?للناس? يفيد العموم - الذين لا بد لهم، بمقتضى لام العلة الغائية في ?لتبين?، من مبين يوضح لهم هذا القرآن الذي نزل إليهم. وواضح من هذا التحليل، أن هناك بيانا آخر تقصد إليه الآية، غير بيان الإبلاغ والإخبار، وهو بيان الإيضاح والإظهار. فهل يعني ذلك أن فهم القرآن رهين شرح النبي، القادر وحده على حل رموز النص الإلهي وفك (شفرته)؟ أوليس هذا مؤشرا على وجود "عوز بياني" في النص القرآني أحوجه منذ نزوله إلى التفسير؟

للإجابة ينبغي النظر إلى المسألة من زاوية مختلفة، وذلك من خلال تسليط الضوء على واحدة من أهم الحقائق المرتبطة بملكات النبي صلى الله عليه وسلم، التي تجعله أعلم الناس بالقرآن، وتجعل العودة إليه لا تستلزم الطعن في البيان القرآني، بقدر ما تترجم الرغبة في تمثل أمثل مناهج التعامل مع الوحي على الإطلاق، وهذا هو مغزى جواب مطرف بن عبد الله لمن قال له "لا تحدثونا إلا بالقرآن"؛ إذ قال "والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا." وقد نبّه الشافعي إلى هذه الحقيقة في مناقشته لعربية القرآن، فبعد أن بيّن أن "جماع علم كتاب الله، العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب" أكد على ضرورة معرفة الحيثيات التي لأجلها كان "الموضع الذي وضع الله به نبيه من الإبانة عنه فيما أراده من كلامه،" وما يهُمُّنا منها هنا، قدرة النبي عليه السلام على الإحاطة باللسان الذي نزل به القرآن، تلك الإحاطة التي عبر عنها الشافعي قائلاً: "والقرآن يدل على أن ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، ( ... ) ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً ولا نعلمه يحيط بجميع علمه غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها."

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير