تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويتضح من هذه الصورة، عن الممارسة اللغوية المواكبة لنزول الوحي، أن لغة القرآن مثالية، مبينة، ومؤلفة من أمشاج من اللهجات المختلفة التي استخدمها العرب، مما جعلها لغة مختلطة، وهو أمر تؤكده نوعية الألفاظ والتراكيب القرآنية، التي تعود لمختلف القبائل العربية. ولما كانت هذه طبيعة لغة القرآن، وكانت وظيفتها مخاطبة البشر جميعاً، كان لزاماً على من يروم الأَوْل بلفظ القرآن إلى صحيح معناه، أن يحيط علماً باللسان الذي نُظِم به مبناه. والنظر إلى واقع الاستعمال اللغوي، إبان نزول القرآن وبعده، يفيد أن الإحاطة الفردية خصيصة نبوية، وأن الإحاطة الجماعية واقع تداولي؛ فالنبي محيط باللسان العربي بمقتضى مهمة التبليغ، والجماعة اللغوية محيطة به، بمقتضى وظيفة التواصل. وعلى هذا الأساس تتأكد مرجعية النبي عليه السلام، وتبرز أهمية تمثل كلامه، بصفته مرشداً للمعنى المراد، ما دام متعذراً على من دونه أن يجمعوا علم اللسان، فلا يذهب عليهم شيء منه. والحاجة إلى البيان النبوي، ليست من جهة ضعف بيان القرآن، أو استحالة إدراك معناه، وإنما هي من جهة عجز الأفراد عن الإحاطة بعلم اللسان. فالعجز، عجز الفرد المستقل، الذي لا قدرة له بمعزل عن جماعته اللغوية - آنية كانت أو تاريخية- على تحصيل سائر مخزون ما تدل عليه الصيغ في أصل وضعها على الإطلاق، وكذا ما تدل عليه بحسب المقاصد الاستعمالية، التي تقضي العوائد بالقصد إليها.

الطاقة الاستيعابية للمتلقي البشري: يلزم تحويل وجهة الاستشكال، صوب الموطن الحقيقي للإشكال. وذلك بربط قضية اللغة والتفسير، بمعرفة الذات، وتعميق النظر في قدرة المتلقي ومؤهلاته الإدراكية. وعليه ينبغي تجاوز النهج الذي يركز على واجبات المرسل، متناسياً حظوظ المتلقي في فهم اللغة، ومدى قدرته على استيعابها؛ إذ لابد أن نضع موضع تساؤل، قدرة استيعابنا الكامنة، ومستوى تفهمنا الفعلي، خاصة أن النص الذي استشكلناه، يتأسس على البيان منذ لحظة الانطلاق.

قدرة الاستيعاب الكامنة: يكون النص واضحاً، إذا مر عبر قناة تواصلية مشتركة، يستعملها المتكلم والمتلقي، وكذا إذا توفر المتلقي على الملكة المؤهلة لتحليل الخطاب. ويمكن الجزم باجتماع ذلك في متلقي القرآن لأن:

- قدرة المتلقي على استيعابه، مختبرة تاريخياً، حسبما يستفاد من واقع العصر الإسلامي الأول، وحالِ الذين نزل عليهم القرآن؛ فالعرب كانوا على مستوى يمكنهم من التفاعل معه، وإدراك معانيه؛ إذ المادة اللغوية المستعملة واحدة، والأبنية المجردة المعتمدة لا تكاد تختلف، لأن الله "خاطب بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيه." فضلاً عن ذلك، أن البيان كان في العرب سليقة وطبعاً، يصرفونه حيث يشاؤون حسبما هداهم إليه تصورهم لمعناه، وتفهمهم لغايته، مما يسر للعرب التعامل مع القرآن، ورشح رصيدهم المعجمي، وقواعد التركيب المعتمدة من قبلهم، وسنن التخاطب بينهم، لأن تكون منفذاً إلى المعنى القرآني، ما دام المجال التداولي للغة القرآن ينتمي إلى عصر الوحي.

- المتلقي التالي لعصر التلقي الأول، قادر مبدئيا على فهم القرآن كفهم سابقيه له. وقد تضافرت عدة نصوص، لبيان أن الخطاب القرآني يقصد إفهام المخاطَبين، وتوصيل مرادات المعنى إليهم، وأنهم قادرون على استيعابه، وتعقل معناه، تبعاً لقدرتهم على التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة، وتبعاً لامتلاكهم رصيداً يؤهلهم لتحليله وفقهه، أو قدرتهم على تحصيل ذلك الرصيد. وهذا يدل على أن القدرة الاستيعابية، ليست حصرية مقصورة على جماعة تاريخية؛ إذ "لما أمر الله جل ثناؤه عباده بتدبره وحثهم على الاعتبار بأمثاله، كان معلوماً أنه لم يأمر بذلك من كان بما يدل عليه آيه جاهلاً؛ إذ لم يجز أن يأمرهم بذلك إلا وهم بما يدلهم عليه عالمون." فطلب التدبر والاعتبار، دالٌ على أن الامتثال في وسع المخاطبين، لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وسبيل الامتثالِ، التوسلُ بالتفكر، والنظر المؤدي إلى المعرفة، بالنسبة لمن يعرف كلام العرب، مع تعلم معاني كلام العرب بالنسبة للجاهل بها. وهذا يجعل القرآن حجة على العالمين، فاتجاهه إليهم ومخاطبته لهم بحسب طاقاتهم، وإمكان بلوغه إلى جميعهم، لا يجعل في وسعهم جهل ما فيه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير