تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مستوى التفهم الفعلي: في ضوء هذا الواقع، يبقى واقع الحاجة إلى التفسير، في حاجة إلى تفسير، لأن الصورة المقدمة آنفاً، تحيل على تصور يصطدم بحال معظم المتلقين المقبلين بتزايد على الأعمال التفسيرية، وكذا بواقع الأعمال التفسيرية نفسها، نظراً لما تتضمن من حالات الاختلاف في تعيين القصد، أو العجز عن تعيينه. ولتفسير هذه الظاهرة، لابد من الكشف عن أسبابها، التي ترجع أساساً إلى الفرق بين الكامن الموجود بالقوة، والمتشيئ الموجود بالفعل، فوجود طاقة استيعابية كامنة لدى سائر المتلقين، لا يستلزم استثمارها من لدنهم جميعا، لأن الاستثمار المؤدي إلى التفهم الفعلي، يبقى رهين أمرين هما:

أولاً: توفر القبليات المعرفية اللغوية: أي المعرفة اللغوية التي تسبق قراءة النص وتمهد لها، وتمكن من تبادر المعنى وانسيابه إلى الذهن مباشرة، عند سماع اللفظ أو قراءته، سواء كان قصد المتكلم مصرحاً به في ظاهر الكلام، أو كان مبثوثاً في ثناياه، لأن القبليات في هذه الحالة الأخيرة، تعطي المتلقي زاداً لغوياً، يتمكن بفضله من تشغيل طاقته الاستيعابية الكامنة، ومن إعمال ذهنه وقدراته التخيلية، لإلحاق الأشباه بنظائرها، وملء الفراغات التي قصد المتكلم إلى إهمال إتمامها. وبديهي، والحال هذه، أن يفضي الجهل بالقبليات اللغوية لدى المتلقي –وإن أدرك هذا الأخير مرحلة النضج والكمال العقلي- إلى العجز عن تعيين القصد الثاوي في إنجاز كامل يستعمل لغة كاملة.

ثانياً: التناول المنهجي الكلي للنص القرآني: وبمقتضاه يلتزم كل تعامل مع النص بنظرة كلية لخطابه، من أجل تفادي كل خطأ في الفهم، أو توهم للتعارض؛ ذلك أن النظرة التجزيئية للقرآن الكريم، لا تجعل صاحبها قادراً على فهمه حق الفهم، لأن من "فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده،" ومن ثم فإن تلك النظرة لا تصلح لأن تعتمد، إلا في المراحل الأولى للقراءة، بغرض معرفة مدلولات المفردات في القاموس العربي، والوقوف على ما يحيل عليه ظاهر الخطاب، وبعد ذلك ينبغي تخطيها إلى القراءة الكلية النسقية، التي تمكن من اختبار كفاية القراءة السابقة من جهة، وتخول الوقوف على مقصد المتكلم من جهة أخرى. وممن نبه على هذا الأمر الشاطبي حين قال: "لا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض إلا في موطن واحد، وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه، لا بحسب مقصود المتكلم، فإذا صح له الظاهر على العربية، رجع إلى نفس الكلام، فعمّا قريب يبدو له منه المعنى المراد." ثم إن الاقتصار على النظرة الجزئية في تحليل الخطاب، يؤدي إلى التعامل مع القرآن تعاملاً سطحياً، ينظر إلى آيات الكتاب نظرة عجلى، تعجز عن الربط بينها وفهمها داخل السياق، مما يفقد المتلقين القدرة على ملاحظة قوة الترابط، وعظيم التناسق في الكلام الإلهي، إلى حد تبدو معه معانيه للنظرة العجلى مقولات متناثرة فحسب.

لا ننكر أن للتناول التجزيئي أهميته، ما دام يمكّننا من تعرف معهود العرب إفراداً وتركيباً، لكن التناول الكلي يستطيع أن يلامس الطبقة الثانية من الدلالات التي تُظهر تماسك المعنى وترابط السياق؛ إذ من خلال تعامله مع الآيات بوصفها نصاً واحداً تَقبل كل آية فيه أن تنفتح دلالتها على غيرها من الآي، يكون قد تجاوز عتبة الاكتفاء بالحدود الدلالية، التي تفيدها ألفاظ الآية مستقلةً، ووعى ضرورة تجاوزها للنظر في دلالة السياق برمته، مما يكفل معرفة أعلى من الدراية بمعهود العرب فحسب، وتلك هي المعرفة بمعهود المتكلم في استعمال عناصر الخطاب.

إن وحدة الخطاب القرآني، تقتضي النظرَ إلى سائر آياته، على أنها كلام واحد، والتعاملَ معها بناء على ذلك، لأن "كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار،" ومنه فلازم فهم وبيان بعضه على ضوء بعضه الآخر، خاصة وأن "كثيرا منه لا يفهم معناه حق الفهم، إلا بتفسير موضع آخر أو سورة أخرى، ولأن كل منصوص عليه فيه من أنواع الضروريات مثلا مقيد بالحاجيات، فإذا كان كذلك فبعضه متوقف على البعض في الفهم، فلا محالة أن ما هو كذلك فكلام واحد." وعلى هذا الأساس تكون وحدة الخطاب القرآني سارية في سائر مكوناته، إلى حد تصير معه سور القرآن الكريم، بمنزلة الآيات من السورة الواحدة. وفي ذلك ينقل ابن هشام عن أبي علي الفارسي

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير