وإذا حملنا الآية عليها، فإننا نكون قد حملنا قرآن مكيًّا على حَدَثٍ مدني، وهذا جائز من باب التفسير والاستدلال، لا من باب النزول أو أن المراد الأولي لهذا القرآن المكي هو ذاك الحدث المدني، ولهذا أمثلة في التفسير، أذكر منها:
ما ورد في تفسير قوله تعالى: (قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى)، فقد فقد روى الطبري بسنده عن أبي العالية الأثر الآتي: عن أبي خلدة، قال: دخلت على أبي العالية، فقال لي: ((إذا غَدَوت غدًا إلى العيد فمرّ بي، قال: فمررت به، فقال: هل طَعِمت شيئا؟ قلت: نعم، قال: أَفَضْت على نفسك من الماء؟ قلت: نعم، قال: فأخبرني ما فعلت بزكاتك؟ قلت: قد وجَّهتها، قال: إنما أردتك لهذا، ثم قرأ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) وقال: إن أهل المدينة لا يَرَونَ صدقة أفضل منها ومن سِقَاية الماء)).
وقد ورد عن جمع من السلف حمل هذه الآيات على زكاة الفطر وصلاة العيد بعدها. (ينظر: الدر المنثور).
والآيات مكية، ولم يكن ثمَّت زكاة فطر ولا صلاة عيد، وإنما كانتا في المدينة، قال ابن الجوزي ـ في زاد المسير ـ: (( ... فإن هذه السورة مكية بلا خلاف، ولم يكن بمكة زكاة، ولا عيد)).
وهذا الاعتراض متَّجه إذا كان القصد من القول بأنها هي المرادة أولاً، وأنها بشأنها نزلت، لكن إذا قلت: بأن الآية على العموم، وأن مما يدخل في هذا العموم زكاة الفطر وصلاة العيد اللتان حدثتا بعد نزول هذه الآية = كان لهذا القول وجه صحيح في التفسير.
ومن هنا يحسن أن نتأمل هذه القاعدة، وهي: أن باب التفسير أوسع من باب أسباب النُّزول، كما أن باب الاستدلال أوسع من باب التفسير، وإذا كنت على خُبرٍ من هذا لم يضق بك الحال من مثل هذه الأمثلة التي يُحمل فيها القرآن المكي على الحدث المدني، بل لو نُزِّل على حدثٍ وقع بعد انتهاء الوحي، مادام يوافق السياق، والله الموفق.
ـــــــــــ
(1) جاء في (زاد المسير) لابن الجوزي: ((وفي الإثم ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه الذنب الذي لا يوجب الحدَّ، قاله ابن عباس، والضحاك، والفرَّاء.
والثاني: المعاصي كلها، قاله مجاهد.
والثالث: أنه الخمر، قاله الحسن، وعطاء. قال ابن الانباري: أنشدنا رجل في مجلس ثعلب بحضرته، وزعم أن أبا عبيدة أنشده:
نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواع جِهَاراً ... وَنَرى المُتْكَ بيننا مُسْتَعَاراً
فقال أبو العباس: لا أعرفه، ولا أعرف الإثم: الخمر، في كلام العرب. وأنشدنا رجل آخر:
شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الإثْمُ تَذْهَبُ بالعُقُولِ
قال أبو بكر: وما هذا البيت معروفاً أيضا في شعر من يحتج بشعره، وما رأيت أحدا من أصحاب الغريب أدخل الإثم في أسماء الخمر، ولا سمَّتها العرب بذلك في جاهلية ولا إسلام.
فان قيل: إن الخمر تدخل تحت الإثم، فصواب، لا لأنه اسم لها)).
ـ[المجلسي الشنقيطي]ــــــــ[23 Jan 2008, 12:24 ص]ـ
الحمد لله
جزاك الله أخي الكريم على هذه الفوائد النافعة و الثمار اليانعة و الدرر البديعة
وإن كنت قائلا شيئا فإني أذكر بمسألة بخصوص سورة الاعلى ومسألة زكاة الفطر و صلاة العيد في قوله تعالى
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى
.
فتفضلت اخي الكريم بقولك هذا
وقد ورد عن جمع من السلف حمل هذه الآيات على زكاة الفطر وصلاة العيد بعدها. (ينظر: الدر المنثور).
والآيات مكية، ولم يكن ثمَّت زكاة فطر ولا صلاة عيد، وإنما كانتا في المدينة، قال ابن الجوزي ـ في زاد المسير ـ: (( ... فإن هذه السورة مكية بلا خلاف، ولم يكن بمكة زكاة، ولا عيد)).
وهذا الاعتراض متَّجه إذا كان القصد من القول بأنها هي المرادة أولاً، وأنها بشأنها نزلت، لكن إذا قلت: بأن الآية على العموم، وأن مما يدخل في هذا العموم زكاة الفطر وصلاة العيد اللتان حدثتا بعد نزول هذه الآية = كان لهذا القول وجه صحيح في التفسير. /انتهى كلامك.
وأريد أن أذكر بشيء هو أن بعض القرآن ينزل و فيه اشارات لأحكام لم يعمل بها بعد كالاشارة الى القتال
في سورة المزمل في قوله تعالى: (وآخرون يقاتلون في سبيل الله ...... ) ومثل ذلك في القمر في قوله تعالى:
(سيهزم الجمع و يولون الدبر) فسرها السلف ببدر والسورتان مكيتان. وليس الامر من باب التفسير بالعموم او بما يحتمله
اللفظ.
و الله اعلم
ـ[مساعد الطيار]ــــــــ[23 Jan 2008, 06:39 ص]ـ
أشكركم ياأخي (المجلسي الشنقيطي) على هذه الإضافة، وقد أصبتم فيها، وهذا أحد أوجه حمل المكي على المدني، وهو بحث لطيف جدًّا، ويضاف إلى ما مثلتم به قوله تعالى: ((وأنت حل بهذا البلد)) وهي من سورة البلد المكية؛ أي حلال لك أن تصنع فيها ما تشاء، وإنما أُحلت له يوم الفتح، وعلى هذا تكون هذه الآية من دلائل النبوة.
وكذا قوله تعالىفي سورة الإنسان المكية: ((ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا)) على من فسر الأسير بأسير الحرب، ففيها إشارة إلى القتال، والله أعلم.
¥